&جميل الذيابي

كان بدهياً أن ترد السعودية على قراري مجلس الشيوخ الأمريكي الخميس الماضي، اللذين يتعرض أحدهما لولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، ويطالب الآخر الإدارة الأمريكية بوقف التعاون بين الولايات المتحدة والتحالف العربي الذي تقوده السعودية لإحلال الاستقرار وإعادة الشرعية إلى اليمن.

وهو بدهي لأن السياسة أصلاً مواقف. وتصبح تلك المواقف ضرورة قصوى حين ينطوي الأمر على التدخل في الشؤون الداخلية، والمساس بالسيادة، والتعرض للقيادة السعودية، ومحاولة التأثير في الدور الريادي الذي تضطلع به الرياض في الساحات الإقليمية والدولية، خصوصاً دورها الريادي في قيادة العالمين العربي والإسلامي.

ولا بد لمن يتابع الشأن السياسي الأمريكي أن يتوقف عند ملاحظات بالغة الأهمية؛ إذ إن قرار مجلس الشيوخ بشأن الاتهامات «غير المبنية» على أساس من الحقيقة هو قرار «غير ملزم» (Nonbinding) لإدارة الرئيس دونالد ترمب، ولا يترتب عليه أي أثر قانوني، أو تشريعي. فهو من صنف القرارات التشريعية التي توصف بأنها بسيطة Simple resolution.

صحيح أن هذا النوع من القرارات قد يكون مجرد تعبير عن آراء لأعضاء مجلس الشيوخ، وليست ثمة حاجة إلى إرساله إلى مجلس النواب لإقراره، ثم إرساله إلى البيت الأبيض ليقره الرئيس الأمريكي أو يرفضه. غير أن مما ينبغي أن يقال في هذا الشأن أن الكونغرس الذي يمثل السلطة التشريعية، بحسب الدستور الأمريكي، جعل نفسه بموجب هذا القرار سلطة قضائية، تملك حق ترجيح الإدانة أو البراءة في مسألة ينظر فيها القضاء في دولة تتمتع بالسيادة والريادة والاستقلال.

إن مجلس الشيوخ ليس مثل مجلس اللوردات البريطاني الذي يضم أعلى هيئة قضائية في بريطانيا. ومحكمة اللوردات ليست نادياً للنبلاء، فأعضاؤها الذين يقفون على سقف الطبقة العليا في تلك البلاد هم قضاة تدرجوا في سلك القضاء حتى أُنعم عليهم بالترقية لمرتبة Law Lord.

هذا الوضع كما أعلم لا ينطبق على مجلس الشيوخ الأمريكي، ولذلك لا يحق له إدانة من يشاء، وتبرئة من يشاء استناداً إلى مصالح سياسية ضيقة، تتمثل بالجماعات التي يمثل أعضاؤها واجهة لمصالحها ومراميها.

وكان بيان السعودية الإثنين الماضي واضحاً في رفضه ذلك القرار، باعتباره تدخلاً مرفوضاً في الشأن السعودي، ومساساً بالسيادة السعودية، وتعرضاً لقيادتها ممثلة بخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وولي العهد الأمير محمد بن سلمان. كما أن القرار يمثل محاولة لتسييس قضية مقتل الصحفي جمال خاشقجي (مواطن سعودي)، علماً أنها قضية جنائية وليست سياسية تتولى التحقيق في ملابساتها النيابة العامة السعودية، تمهيداً لإحالة من وجهت إليهم اتهامات إلى محكمة شرعية سعودية لا يتدخل في أشغالها مسؤولو الجهاز التنفيذي السعودي، وقد طالبت النيابة الحكومة التركية رسمياً بتزويدها بما لديها من أدلة وقرائن، لكن الحكومة التركية لم تتعاون.

أما القرار الثاني لمجلس الشيوخ فقد تم اتخاذه بموجب «قرار سلطات الحرب» الصادر في عام 1973. ويطالب القرار إدارة ترمب بوقف التعاون العسكري الأمريكي مع التحالف العربي بزعامة السعودية في اليمن. وثمة ملاحظات مهمة في هذا الشأن. أولها أن تعليقات جميع المحللين السياسيين، بمن فيهم معلقو ومحررو صحيفة «واشنطن بوست» التي تقود الحملة الإعلامية المسعورة ضد المملكة، تجمع على أنه ليس مرجحاً مطلقاً بأية نسبة أن يقوم مجلس النواب الذي يسيطر عليه الجمهوريون بتأييد هذا القرار، تماشياً مع تبريرات الإدارة الأمريكية لمساعداتها للتحالف في اليمن. وحتى لو افترضنا جدلاً أن مجلس النواب قام بتمرير القرار، فإن الأكثر ترجيحاً أن الرئيس الأمريكي سيستخدم حقه الدستوري في نقضه، لأن الأمن القومي الأمريكي يملي عليه الوقوف مع السعودية وحلفائها لمحاربة الإرهاب وضمان كبح مخططات الزعزعة الإيرانية المهددة للعالم بأسره، وليس دول الإقليم أو الولايات المتحدة وحدها.

كما أن «قرار سلطات الحرب» الذي استهدف أصلاً إدارة الرئيس الجمهوري الراحل ريتشارد نيكسون ظل مثيراً للجدل منذ إقراره في 1973 حتى اليوم. والدليل على ذلك أن جميع الرؤساء المنتخبين ظلوا يشككون بدستورية ذلك القرار، ويعتبرونه خطراً على الأمن القومي، ودور الولايات المتحدة في قيادة العالم. يعطي القرار الكونغرس حق إعلان الحرب، ويقصر عليه تخويل الأموال اللازمة لشنّها. وهو ما يرفضه الجهاز التنفيذي (الحكومة أو الإدارة) باعتبار أن الرئيس هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو الذي يحدد درجة الخطورة التي تهدد أمن البلاد، وسلامة مواطنيها، ومصالحها الخارجية.

وحتى لو قرر أعضاء مجلس الشيوخ المناهضون للسعودية الدفع بقرارهم بشأن اليمن لمجلس النواب الجديد الذي سيلتئم للمرة الأولى مطلع العام الجديد 2019، فإن من الواضح عدم وجود غالبية كافية لتمريره. وحتى لو تم تمريره فإن ترمب بالتأكيد سيعمل على نقضه.

كما أن نجاح مفاوضات السلام بين الأفرقاء اليمنيين في السويد الأسبوع الماضي، وإعلان التوصل إلى اتفاق بشأن الحديدة وتعز، وتبادل آلاف الأسرى والسجناء، فتح الباب واسعاً أمام احتمالات حل سياسي للأزمة اليمنية، على رغم تدخلات إيران، واستعدادها لتحريض عملائها الحوثيين على تخريب أي تسوية سياسية، كل ذلك يجعل حديث أعضاء الكونغرس عن الأبعاد الإنسانية للحرب اليمنية في غير محله.

الأكيد أن القرار الخاص باليمن لم يصدر من أجل أعين اليمنيين، بل من مناهضة للرياض ومناكفة لها. وحين فشلت محاولة خنق الجهود التي تقودها السعودية في اليمن، نصّب مجلس الشيوخ نفسه محكمة للإساءة للمملكة وقيادتها، بناء على ادعاءات واتهامات لا أساس لها من الصحة، ولكن الرياض الواثقة لا تتأثر.. وشواهد التاريخ كثيرة.