سميرة المسالمة

يبدّد القصف الروسي الهمجي على إدلب وريفها ومناطق سورية أخرى، أي مراهنات على دور روسيا، كشريك وكضامن في العملية التفاوضية السياسية، الذي بدا أن وفد «الهيئة العليا للتفاوض» يراهن عليه، إبان زيارته إلى موسكو قبيل انعقاد الاجتماع الخاص في فيينا برعاية الأمم المتحدة في 22 و23 من الشهر الماضي، ولاحقاً خلال تعامله الإيجابي مع مخرجات مؤتمر «سوتشي»، الذي رعته موسكو أخيراً، وقادت إليه مئات من السوريين تحت عنوان الحوار الوطني السوري- السوري، بمشاركة بعض قوى المعارضة، ومنها منصّة موسكو أحدى تكوينات تلك الهيئة، على رغم اتخاذ قرار رسمي داخل هذا الإطار بعدم المشاركة.

هذا الواقع يضعنا أمام ملاحظات مهمة وتساؤلات جادة، قبيل انعقاد اجتماع الهيئة في العاشر من هذا الشهر، لمراجعة الأداء ودراسة المعطيات الجديدة للواقع السياسي الدولي، في ظل التصعيد العسكري من جهة النظام وروسيا في إدلب وريف دمشق، والمعركة التي تقودها تركيا بمشاركة فصائل سورية محسوبة على المعارضة في عفرين. ومثلاً، فهل تم التعامل مع معطى توحيد وفد المعارضة بمنظور شكلي، أي لا يرقى إلى مستوى العمل المشترك بين أطياف هذا الوفد، مما يجعل الافتراق عند القضايا المفصلية أمراً محتملاً ومسموحاً به، وفق بيان الهيئة الذي أجاز التعامل مع الدعوات إلى حضور «سوتشي» يتم بطريقة فردية غير مؤسساتية؟ وهل كان من المجدي مقاطعة المؤتمر، بينما هناك تنسيق- تحت الطاولة- في عملية إعداده وتحضير منتجاته، كما تم التنويه عن ذلك من جانب أعضاء في الوفد التفاوضي؟

أيضاً، هل ينقذ «سوتشي» المحاولة الواهية للتعامل مع النقاط 12 التي طرحها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا، وكان تجاهلها، أو اعترض على الرد عليها، وفد النظام، في حين أن المعارضة تعاملت معها بكل جدية، وأخذت عليها بعض الملاحظات التي لا ترقى إلى حيّز الاعتراض على أي من نقاطها؟ 

فإذا كان ورود هذه النقاط التي يسوّقها دي ميستورا كمشتركات، يمكن العمل عليها في صناعة مستقبل سورية، فإن ما تم التعاطي معه في «سوتشي» لا يرقى إلى ذلك، حيث تجاهل البيان الختامي الصادر عن ذلك المؤتمر فكرة تداول السلطة، والتعاطي مع الصراع الحاصل على أنه صراع بين من هم- دون النظام- من حيث البنية، مع جملة من النصوص الدستورية والقانونية، كأن الخلاف ليس بين الشعب السوري، الذي قدم مئات آلاف الضحايا، وبين النظام الحاكم، ما يعني أنه خلاف على أولوية الإصلاحات، وليس على شرعية بقاء النظام الحاكم، مما يمنح كامل رموز النظام صك براءة من المشاركين في المؤتمر، ومنهم شركاء في وفد المعارضة!

إن القبول بما نتج من «سوتشي»، ولو كاحتمال ضعيف، كأساس للحوار بين المعارضة والنظام، يتضمن القبول لاحقاً بخطف كل بند تفاوضي من طاولة المباحثات في جنيف إلى حيث يريد أحد الضامنين للصراع المسلح في سورية، ومنهم تركيا وإيران وروسيا، وهو ما تم سابقاً في «آستانة»، وأصبح مرجعية في التفاوض، على رغم انتهاك ما تم الاتفاق عليه في مناطق خفض التصعيد التي باركتها الأمم المتحدة، وتتعامل اليوم مع انتهاكاتها بصمت مريب، يرقى إلى درجة الشراكة بقبول المذابح التي يتعرض لها الشعب السوري، في أكثر من مكان، وعلى يد الضامنين لخفض التصعيد المأمول، من مسار آستانة الدخيل أصلاً على مسار المفاوضات الأممية في جنيف.

في الغضون، وفي ظل المقتلة التي تتعرض لها سورية، في مناطق إدلب وحماه وحلب، تتبادل الدول الضامنة لخفض التصعيد مباركاتها بعضها بالصمت على ما ترتكبه كل قوة منها في سورية، وسط حراك ديبلوماسي لفرنسا والولايات المتحدة، ومعهما بريطانيا والسعودية والأردن، حيث تبنّت من خلاله هذه الدول ما سمي «اللاورقة»، التي تعاطت مع الحل السوري وفق معطى جديد لا يستثني أي مكون، وهو أخذ في الاعتبار أن العودة إلى سورية الدولة الرئاسية شديدة المركزية التي كانت ما قبل 2011، أمر شبه مستحيل من حيث البنية الدولتية والبنية السلطوية، وعلى رغم ما يمكن اعتباره أنه تجاوز على التعاطي البنيوي لبيان جنيف1 والقرار 2254، من حيث ترتيب الأبجديات المنوطة بالعملية السياسية التفاوضية، وباعتبار أن تلك «اللاورقة» قابلة للتطوير، بما يسمح بضم مزيد من الشركاء لتبنيها، كألمانيا وتركيا وحتى روسيا، على رغم المحاولة الثلاثية من موسكو وأنقرة وطهران بتعطيلها، وتغييبها من خلال تضمين بيان مؤتمر سوتشي بعض ما اعتبرته روسيا تنازلات، تتوافق إلى حد ما، ومطالب الأمم المتحدة في صياغة الحل السوري، من دون أن تتعامل مع الهدف الأساسي لهذه النقاط الـ12 التي تعني إنهاء نظام الحكم القائم واستبداله بنظام ديموقراطي تعددي، يقوم على الفصل بين السلطات واحترام حقوق المواطنة وتداول السلطة.

على ما تقدم، فإن الهيئة خلال اجتماعها القريب عليها أن تناقش الأمور صراحة، بما يتضمن مناقشة مواقف الدول الضامنة لآستانة، وانشغالات قوات هذه الدول (روسيا وتركيا وإيران) في حروب متعددة داخل الأراضي السورية، حيث تنقسم الهيئة في تأييد هذه الحروب، تبعاً لمجاراتها تركيا أو روسيا أو حتى لاعتبار بعض المعارضة أن الوجود الإيراني في سورية لديه مقومات الشرعية في وجوده، نظراً الى موافقة النظام على ذلك، ما يعني أن المعارضة داخل الوفد وخارجه منقسمة في أهم القضايا السورية، التي تتعلق بأمان السوريين وحياتهم، والحروب التي تشنّ عليهم من أطراف داعمة إياهم من جهة، وفي توافق مع النظام في حربه على السوريين من جهة أخرى.

من المفيد التذكير بأن رفض ما نتج من سوتشي لا يعني عدم التعامل مع النقاط الـ12، بكل ما يبنى عليها، من وحدة سورية أرضاً وشعباً، واحترام سيادتها، وحق تقرير الشعب مستقبله، والمحافظة على مؤسسات الدولة وإقامة جيش وطني، واحترام حقوق الإنسان وتنوع المجتمع السوري ومكافحة الفقر ومحاربة الإرهاب، إذ إن كل ذلك لم تبتعد منه «اللاورقة» ولكن بصياغة بعيدة من الإنشاء، وعبر صوغ وسيلة تفاوضية مستمرة ومباشرة، تضع حداً للتلاعب بمسارات وجولات العملية التفاوضية، على ما حصل في تجربة الجولات الثماني السابقة. ولعل هذه هي الفرصة المناسبة لجمع الأطراف المعنية بالصراع السوري حول رؤية تؤسس لسورية جديدة، بعيدة من قبضة إيران وقادرة على التخفف سريعاً من وجود الاحتلالات العديدة على الأرض السورية، وإنهاء المأساة السورية، ووقف نزف الدم الذي يشارك في إراقته الأعداء والأصدقاء.


* كاتبة سورية