أكرم البني

سيطرت قوات النظام السوري والميليشيا الموالية له على مزيد من قرى الغوطة الشرقية وبلداتها، بينما استولى الجيش التركي وجماعات سورية مسلحة على مدينة عفرين. والمشهد أيضاً، قصف قوافل المدنيين الفارين من جحيم الحرب في الغوطة وغيرهم الهاربين من أتون معارك عفرين، ربطاً بتدمير المشافي على الجرحى والمدارس على الأطفال اللاجئين إليها، وما رشح من أخبار عن استباحة السلب والنهب، واغتصاب النساء والفتيات، وعن تنكيل بالمدنيين وعمليات تطهير واعتقالات عشوائية.

ثمة اجتهادات متنوعة لتحديد الدوافع التي حضت هؤلاء «المنتصرين» على الانتقام من بقايا مدنيين «مهزومين» بهذه الطرق البشعة!

بداية، نعترف بأن هناك من لا يعطي قيمة نوعية لتلك الانتهاكات، ولسان حاله يقول: «من شرب البحر، لن يغص بماء الساقية» مشبهاً ما يحصل بـ«ملح وبهارات» الوجبات الدسمة من عنف مفرط ضد السوريين استخدمت فيه أشد وسائل الفتك والتنكيل وأكثرها انحطاطاً، ووصلت إلى السلاح الكيماوي، أو يشبهها بلعب أطفال أمام من تعرضوا لحصار جائر طيلة سنوات وتحسرواً قهراً على أحبائهم وهم يفارقون الحياة، جوعاً ومرضاً، من دون أن يكونوا قادرين على فعل شيء!

ولكن لا يجانب الصواب من يرد ذاك الانتقام الممنهج إلى طول أمد حرب دموية أظهرت من نفوس البشر الأبشع والأفظع، يحدوه ما راكمه العنف المنفلت من حقد ونوازع ثأر متبادلة لم يعد بالإمكان السيطرة عليها مع انعدام رغبة المتحاربين في اجتراح حلول وطنية تشاركية! أو من يرده إلى غاية تكتيكية إرهابية غرضها تمكين قوات عسكرية يحتاج تقدمها إلى إشاعة أجواء من الخوف والرعب لدى خصومها لإضعاف روحهم القتالية والمعنوية، مذكراً بلجوء تنظيم داعش إلى هذه الوسيلة بعد سيطرته على الموصل، حيث تقصد أن تسبقه أخبار بربريته ووحشيته لتسهل له السيطرة على مدن أخرى! بينما تتضح الحاجة اليوم عند من يجتاحون الغوطة وعفرين، إلى تحقيق «انتصار كاسح وسريع» ليس خوفاً، إن طالت المعركة، من ردود فعل دولية تبدو ضعيفة ومتواطئة ولا تستحق الاعتبار، بل لتحسين أوراق المحاصصة على النفوذ مع اقتراب مفاوضات آستانة، ولا يضعف هذه الحاجة ما يشاع عن وجود صفقة مضمرة بين روسيا وتركيا تمكن النظام السوري من السيطرة على الغوطة مقابل غض النظر عن سيطرة حكومة أنقرة على عفرين!

وأيضاً لا يخطئ من يربط الأمر بتشعب الصراع السوري وخضوعه لحسابات أطراف خارجية، دولية وإقليمية، تستسهل مقابل مصالحها الضيقة والأنانية استباحة كل شيء وتحويل حيوات السوريين إلى مجرد وقود لتسعير تنازعها على التمدد والنفوذ في المنطقة، ويزيد الطين بلة التحولات التي طرأت على المشهد العالمي مع تنامي ظواهر التعصب والشعبوية وعودة مناخات الحرب الباردة، بما هو حضور الصورة النمطية البغيضة لدول كبرى تستهتر بمصير البشرية وتتوسل منطق الغلبة والمكاسرة في المنازعة على الهيمنة والنفوذ من دون أن تقيم اعتباراً لمصالح الشعوب الضعيفة وحقوقها، إلى جانب حضور الصورة المخجلة لمؤسسات أممية مربكة وعاجزة عن أداء واجبها في حفظ السلم والأمن وحماية المدنيين.

ويبقى التفسير الأهم هو ربط ذاك النهج الانتقامي بدوافع آيديولوجية، دينية كانت أم قومية، تحدوها رؤى وسياسات غير قابلة للنقد أو المراجعة، يدعي أصحابها أنها تصلح لكل زمان ومكان، فيمنحونها صفة الثبات ويحولونها إلى سياسات مقدسة أو شبه مقدسة، مسوّغين من أجل نصرتها والدفاع عنها أفظع وسائل العنف والقهر والثأر والترويع.

وبعبارة أخرى، فقد أفضى التنافس السياسي المرضي على الهويات الآيديولوجية وصور الالتزام الأعمى بها، إلى تغذية الإحساس بامتلاك حقيقة مطلقة لا يأتيها الباطل، لا من أمامها ولا من ورائها؛ ما شجع على تسخيف قناعات الآخرين، وخوض المعركة معهم كمعركة وجود أو لا وجود، وتوسل كل ما من شأنه تسعير القتال ضدهم في محاولة ليس فقط لقمعهم وإقصائهم من دورهم في المجتمع، وإنما من الحياة أيضاً.

يصح أن نغمز من هذه القناة إلى الجذر الآيديولوجي والمذهبي الذي تتوسله طهران لتسويغ تدخلها في الصراع السوري، إلى استحضارها البغيض الخلافات التاريخية بين معتنقي المذهبين الشيعي والسني، إلى تسعير التنابذ بينهما وتأجيج نار الثأر والانتقام، متوهمة القدرة على تعزيز حضورها وبعث مشروعها الإمبراطوري من خلال خطط مريضة لنشر التشيع، وعمليات تطهير وتهجير ديموغرافي تلبسها لبوساً دينياً، بدليل ما حصل ويحصل في داريا، حيث مرقد الست سكينة، ومناطق الغوطة المحيطة ببلدة الست زينب! وأيضاً يصح أن نغمز من القناة ذاتها، إلى الجذر الآيديولوجي القومي الشوفيني الذي تستند إليه حكومة أنقرة في حربها المزمنة على الأكراد في تركيا وسوريا، إنْ برفض الحلول السياسية معهم رغم تنازلهم عن خيار الانفصال، واكتفائهم بمطلب الحكم الذاتي في إطار الدولة المركزية، وإنْ بتوسل نهج انتقامي استئصالي لتصفية وجودهم تصفية تامة، بما في ذلك الضغط على حاضنتهم الاجتماعية لتهجيرها أو «لتتريك» الضعفاء منها.

إشهار موقف مبدئي وحاسم ضد أساليب العنف المنفلت وضد الانتقام الممنهج في الحرب السورية، هو شرط لازم، لكنه غير كافٍ إن لم يقترن برفض جذره الآيديولوجي ودعوات التفرقة والتحشيد المذهبي وما يرافقها من محاولات الإقصاء والاستفزاز وإثارة الحقد والبغضاء؛ الأمر الذي يتطلب جهداً ثقافياً خاصاً، يطلق آفاقاً جديدة لصالح إعلاء شأن الحياة والحرية والمساواة في مواجهة طغيان الآيديولوجيا وغطرسة المصالح الضيقة وحماقة القوة. جهد يبدأ من الاعتراف بالكائن الإنساني بصفته روحاً بشرية جديرة بالحياة والاحترام التام، بغض النظر عن اللون والجنس والعرق والدين والمعتقد، ويصل إلى الاعتراف به بصفته ذاتاً حرة وندّاً ذا حقوق متساوية نابعة من حقوقه الطبيعية في الحرية والكرامة والاجتهاد.