سميرة المسالمة

انتخب لبنان سلاح «حزب الله» في سورية، أي لم يعد شعار النأي بالنفس الذي عوّلت عليه حكومة لبنان على مدى سنوات المأساة السورية السبع ينفع أحداً، فمن شارك بترجيح كفة نوابه لابتداع شرعية لقرارات الحزب وسلاحه داخل لبنان وخارجه، يقول بملء صوته (الخائف والمخوَّف والمحكوم) والمصلحي «نعم» لمشاركتهم في قتل السوريين، هذه «الأصوات» التي هيأ لها الحزب أجواء الخوف والترهيب من خلال ممارساته خلال الحملة الانتخابية لمن يعارضه، جاءت لتعبر عن قصد أو من غير قصد عن «لا» لبرامج إصلاح طرحتها أصوات المجتمع المدني، وأصوات الباحثين عن طمأنة الغالبية السكانية لمستقبل أقل صخباً، وأكثر بحثاً عن حلول لحياة تنهار أساساتها، سواء الأمنية أم الخدمية أم المعيشية، ويتحول لبنان بموجبها إلى ساحة خلفية لحرب «حزب الله» في جبهته الأمامية سورية- وليس حديقة خلفية، حيث غيبت النفايات جماليات لبنان في معركة الصراع الحكومية-، ما يعني أن فرحة الانتخابات العائدة بعد غياب طويل بدّدتها أصوات زخات رصاص الذين يعلنون أنهم موجودون بقوة سلاحهم قبل النتائج وبعدها.

ربما، ليس من قبيل الصدفة، أنه لم يتم خلال سنوات الحرب السورية السبع تعطيل أي استحقاق انتخابي سوري - على رغم أنه ضمنياً هو استحقاق شكلي ليس أكثر- وجرى في ظروف قاهرة للسوريين، وفي ظل غياب أكثر من نصف الشعب السوري، وعدم تمكن نحو ستين في المئة من الموجودين داخل سورية من ممارسة حقهم الانتخابي، سواء بسبب خروج مناطقهم عن حكم النظام، أو تخوفهم من حالة الحرب القائمة، أو عدم رغبتهم في مشاركة النظام «أعراسه الديموقراطية» على وقع طبول الحرب، إلا أن النظام السوري عمل على تقديم نفسه كحاكم لدولة بكامل فعالياتها «الانتخابية» انتخابات رئاسية ومجلس الشعب، وقيادات حزب البعث، بل وزاد عليه تغييرات دستورية، ما يظهر أن النظام السوري الذي يخوض حرباً ضد السوريين المعارضين له لم يؤخر استحقاقاته الوهمية، في ذات الوقت الذي استطاع ومن خلال «حزب الله» حليفه وشريكه وممثله نيابياً في لبنان، أن يمارس تعطيلاً متعمداً للحياة البرلمانية، وانتخاباتها، لنحو دورتين متتاليتين، أنتج من خلالهما حكومة مقيدة في لبنان لمصلحة حليفه، ومن ثم حكومة معطلة خدمياً لقلب الطاولة على خصومه داخل لبنان، ضمن ما سمي حكومة النأي بالنفس.

اليوم فاز «حزب الله» في المجلس النيابي، وهذه حقيقة يستطيع اللبنانيون التعايش معها، بل وفلسفتها، بأنها قد تخدم مشروع لبننة الحزب، وإبعاده عن حاضنته إيران، إذا أراد أن يقود القرار والسلاح لبنانياً، ويمكن أن تكون مصيدة للحزب نفسه، المشتت بين حربه في سورية على السوريين، وحربه في لبنان على فكر وقيم الحرية والديموقراطية التي عاش واعتاش عليها لبنان «سويسرا الشرق» طويلاً، فهل سيرتدي حسن نصرالله وجهه اللبناني بعد هذا الفوز غير «المدني»، نازعاً الوجه الإيراني في حكمه القرار السياسي للبنان، أم سيبقي على وجهه الإيراني الذي خبرناه خلال هذه الحرب الطويلة له في سورية، وأدواره في قتل وتشريد وتهجير وتغيير خريطة مدنهم إدارياً وجغرافياً وديموغرافياً، ويصبح سلاحه هو صاحب القرار السياسي والعسكري في معركة الحكومة المقبلة؟

ثمة أسئلة تشعل المرارة في نفوس السوريين، كما في نفوس اللبنانيين الأحرار الذين خبروا معنى مأساة الحروب ومنعكساتها على الشعوب، والذين وقفوا ضد حملات ممثلي الكتل النيابية البرلمانية التي طالبت بترحيل السوريين من اللاجئين، في صيف 2017، الذين فروا من المقتلة التي يديرها «حزب الله» اللبناني في سورية وفق الأجندة الإيرانية، متناسين أن حضور اللاجئين القسري والطارئ في لبنان هو نتيجة حضور مبرمج وطائفي للحزب المنتخب اليوم في البرلمان اللبناني، ما يعني أن خلاص كل طرف اليوم من «لاجئين ولبنانيين متأزمين منهم» هو بعودة الطرف المسلح صاحب القرار بذهابه إلى سورية ليحارب أهلها، ليعود الطرف المجبر بلجوئه إلى لبنان إلى بلده بعد أن تستقر أسباب أمنه هناك، وفي أولها خلاصه من «حزب الله».

ربما يتحمل الصمت الانتخابي مسؤولية ضياع فرصة عودة لبنان إلى ديموقراطيته التي طالما حاولت الصراعات الطائفية والمصلحية الإخلال بموازينها والنيل منها، ومع ذلك لم تنجح كما هي الحال اليوم بصورة هذه الانتخابات التي اختارت السلاح على السلمية، وإيران بديلاً للحاضنة العربية، ما يجعل السؤال مشروعاً أمام المغيبين عن المشاركة في رسم صورة لبنان ما بعد الحرب في سورية، عمّن يتحمل مسؤولية ما بعد الانتخابات فيما لو تكلّل بصمت الداعمين لعملية التنمية التي يحتاجها لبنان، في ظل تسلط السلاح الحزبي الطائفي على القرار اللبناني السياسي والحكومي، وابتعاده ومعاداته محيطه العربي الداعم تاريخياً للبنان، وكيف لمن يرى أن لبنان جزء من الجمهورية الإسلامية الإيرانية أن يعمل على صيانة استقلاله واستقراره وتنميته بعيداً من تبعيتها لولاية الفقيه؟

ما قالته «الانتخابات» في لبنان أن مشاركة «حزب الله» في القتال إلى جانب النظام في سورية ليس شأناً إيرانياً- سورياً، كما كان يحاول أن يدعي إعلان حكومة النأي بالنفس، إنما هو شأن سوري- إيراني في لبنان، وهو الآن لبناني وتحت غطاء انتخابي أراده النظام السوري ليعلن من جديد عودته إلى الساحة اللبنانية من باب الأغلبية النيابية، وهو الأمر الذي يضع التفاهمات الدولية -التي تعقد في أكثر من مكان- في دائرة الشك حول موقفها من التوسع الإيراني في المنطقة، وتحديداً الدور الأوروبي في الصمت على أدوارها في كل من لبنان وسورية والعراق واليمن، ويمهد لنزع أي تبعات حقيقية لعملية إعادة ملف الاتفاق النووي الإيراني مع الدول الخمس الباقية في الاتفاق إلى طاولة التفاوض، بعد انسحاب الولايات المتحدة الأميركية منه، أو استبداله بآخر يحد من إمكانات تطويرها صناعتها النووية وصواريخها.

خيارات اللبنانيين في الإحجام عن المشاركة الفعالة لإنتاج ما يمثل رغباتهم في العيش الهادئ والكريم ، ضمن محيطهم العربي، بعيداً من صراعات المنطقة، أنتجت خارطة جديدة لمراكز القوى المحلية الطائفية، وحجّم الأكثرية، ولا أعني بها أكثرية «الحريري»، وإنما أكثرية لبنان الحر والديموقراطي والوجه الحضاري للمنطقة العربية، وما تدني نسبة مشاركة العاصمة بيروت بهذه الانتخابات إلا تعبير هادر يرفض بنأيه عن الانتخابات ما آلت إليه بيروت، بسبب حرب خاضها حزب الله في سورية بعيداً من إرادتها، فأكلت من دماء أولادها، واعتاشت على أرواحهم، نعم هو إحجام بحجم الرفض لأن تبقى بيروت متأرجحة على ميزان الطائفية والمصلحية الإيرانية التي تضع حبالها حول عنق بيروت كما فعلت في بغداد ودمشق وأينما حلت بطائفيتها وعسكرها وسلاحها النووي.

* كاتبة سورية.