مرزوق الحلبي

أتّفق مع التنظيرات القائلة إن العولمة انتقصت من الفكرة الديموقراطية كما شهد التاريخ تطبيقها لأن ضعف الدولة الإقليمية استتبع انحساراً في الديموقراطيات. وتعليله هو أن الديموقراطية فكرة تجسّد حُكم الشعب وإرادته في دولة مُعطاة، بينما العولمة تعني في ما تعنيه سيولة القوة والإرادات من خارج حدود الدولة ومجتمعها للتأثير في مجريات الأمور والخيارات داخل الدولة.


بموجب وجهة نظر تحليلية كهذه، فإن كل عملية انتخابات تشريعية أو للسلطة التمثيلية أو للرئاسة (في النظام الرئاسي) لا تعبّر عن إرادة المشاركين في الانتخابات فحسب، وهم مواطنو الدولة المعنية، بل عن إرادات ومصالح قوى خارجية كدول وحكومات ومؤسسات مالية وشركات ومحاور إقليمية وسواها. وقد شهدنا «تورّط» روسيا في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة ولا تزال التحقيقات في هذه القضية في بدايتها. لكن الأمر ينسحب أيضاً على الدول الأقلّ شأناً أو تلك التابعة لمحور إقليمي أو دولي.

من المُفيد أن نرى إلى الانتخابات اللبنانية والعراقية في الأسبوع الماضي من خلال هذا التحليل، فلا يكون احتفاؤنا بهما وبالعرس الديموقراطي مقطوعاً من سياق واقعي إن كان في سيرورة ما حصل ونتائجه، أو في سيرورة العملية الانتخابية التي لا تعني بالضرورة تعزيزاً للديموقراطية أو ما تعنيه هذه الفكرة من حريات وإجراءات تحفظ الفصل بين السلطات أو حقوق الإنسان أو الدَسْتَرة.

فإذا نظرنا إلى العراق، سنجد في نتائج الانتخابات هناك الملالي من إيران ونزعات الحرس الثوري الإيراني والتيار المُعتدل. وسنجد على خط موازٍ تأثيرات التدخّل الأميركي ومصالح البيت الأبيض. أما الحكومة التي ستتشكّل فتكون في مؤدّاها محصّلة التوازنات بين هاتين القوتين الخارجيتيْن الداخليتيْن! يغيب الفارق بين قوة تأثير الناخب وبين قوة تأثير القوة الراعية له أو للمرشحين الوافدة من خارج القُطر. صحيح أن عوامل أخرى عدة تفعل فعلها في النتائج، لكن العامل الحاسم هو المصالح التي يُراد للقوى المشاركة في الانتخابات أو «الفائزة» فيها خدمة مصالح محورين قوييْن من خارج البلد.

الأمر نفسه تُمكن رؤيته في لبنان. تحتَ الحملات الانتخابية والسجالات التي احتدمت وشطّت في مرات كثيرة، والخُطب النارية، تختبئ حقيقة مرّة وهي، وإن كان الناخب اللبناني يُدلي بصوته مُقتنعًا بمرشّح على لائحة ما، فإنه في نهاية المطاف يقترع لمصلحة قوى إقليمية ودولية. وأعتقد أن الناس تُدرك هذه الحقيقة بحسّها الفِطري وأن «اللعبة مبيوعة»، فإما أن تعزف عن اللعب أو أن تعزف معها لحن الديموقراطية الحزينة أو الهشّة. ربّما يقول المشاركون «رأينا لعبة أمامنا فلعبنا» أو «لو كانت هناك لعبة أخرى لاخترناها»!

المواطن يُشارك في «الديموقراطية» التي تتطور تاريخياً أو قد لا يُشارك. وهي ظاهرة غير محصورة بالمجتمعات العربية. لكن كلّما ضعُفت الديموقراطية وتضعضعت كان حضور الغريب والأجنبي في مواسمها قوياً ومؤثّراً. وهكذا تأتي النتائج على وقع هذا التدخّل ومَداه. وأمكننا أحياناً أن نقول في سياق الانتخابات اللبنانية فاز «الحرس الثوري الإيراني» بأوراق لعب جديدة أو تقلّصت حصة فرنسا في البرلمان أو ضعفت أوراق اللعب الخليجية. أتابع عن بُعد تفاعل الشعب اللبناني أو الشعوب العراقية مع الانتخابات لأجدها تعبّر في الوقت ذاته عن خيبتها وعن أملها في العملية الانتخابية والسياسيين وفي النتائج. أملها الإنساني بأن تصحّ الأمور في البلد وتستقيم وتنعكس حياة كريمة وحريات ونمواً ورفاهية. وعن خيبتها نتيجة معرفتها أن النتائج معروفة مسبقاً. ليست نتائج الانتخابات فقط بل النتائج المترتبة عن العملية الانتخابية لجهة أن ما كان هو ما سيكون وأن موارد البلد إما ستُهدر أو أنها ستؤول في نهاية النهار إلى قوى خارجية مرئية أو غير مرئية. أما البلد على ما يعنيه البلد كدولة ومجتمع وحقوق وتوزيع للموارد فيصير أسيراً أو رهينة التحالفات وترتيب المصالح بين قوى في داخل البلد وقوى خارجها. وتكون العملية الانتخابات غطاءً كلامياً وسياسياً وقانونياً لهذه الترتيبات. وهي عادة ما تُفضي إلى فوز الأقوياء وخسارة المُستضعفين وفي رأسهم المواطنون والجماعات المُقصاة وقليلة العدد وعديمة الحيل