سلطان البازعي

مذ أعلنت رؤية «المملكة 2030»، اعتقدت جازماً أن الحديث الذي ورد فيها عن «جودة الحياة» سيكون هو العنوان الأبرز في هذه الرؤية، وتأكد هذا الاعتقاد عندما تم الإعلان عن إطلاق برنامج «جودة الحياة» قبل أسبوعين، إذ بدا واضحاً أن هذا البرنامج سيكون هو الميزان الحقيقي لنجاح بقية برامج الرؤية وأهدافها، على رغم الانطباع الذي خلفته عملية إطلاق البرنامج وأوحى للمراقبين بأن البرنامج هو ذو صبغة ترفيهية تتعلق بصفة رئيسة بمدى مشاركة المواطنين في الأنشطة الرياضية والثقافية والفنية، بينما من البديهي أن الفرد المشغول بهمومه المعيشية المباشرة لن تكون هذه الأنشطة في مقدمة اهتماماته. ولحسن الحظ فإن من يقرأ تفاصيل البرنامج ويطلع على مبادراته سيخرج بانطباع مختلف عما صاحب حفل الإطلاق.


«مجتمع الرفاه» هو التعبير المقابل لتعبير «جودة الحياة»، والتعبير الأول هو الهدف الذي تسعى إليه كل خطة تنموية، لكنه تعبير «طوباوي» يصعب الإمساك بأطرافه، ولذا فإن الرؤية استخدمت التعبير الثاني الذي توجد له بالفعل مقاييس واضحة يمكن العمل من أجلها وتحقيقها بخطوات عملية يمكن قياسها ومحاكمتها عبر مؤشرات قياس الأداء. وبالتأكيد فإن الإنسان الذي يتمتع بأسس جودة الحياة سيكون مقبلاً وبشغف على ممارسة الأنشطة الرياضية والثقافية والفنية والمشاركة فيها، مع التأكيد على أنها حاجات إنسانية أصيلة، لكن لا بد لأي عمل تنموي تقوم به الدولة أن يتأكد من حصول المواطن على فرصة العمل في اقتصاد قوي خلاق يعطي الفرصة للمبدعين في العمل والانتاج، وقبل ذلك أن يوفر نظاماً تعليمياً متطوراً يزوده بالمعارف والمهارات ويجعله قادراً على ابتكار الحلول، وأن يوفر له رعاية صحية متقدمة تزيد من معدل عمره الافتراضي وتكون بمتناوله في أي مكان، وأن يتوفر للمواطن مسكن لائق تنشأ في رحابه عائلة سليمة التكوين وأن يكون هذا المسكن مزوداً بالخدمات الأساسية كافة في مبنى متعاظم القيمة لا متهالكها، وغني عن القول إن الغطاء الضروري لكل هذا هو في وجود مظلة أمن وعدل تعطي الجميع حقوقهم وتحافظ عليها.

وبرنامج «جودة الحياة» ليس الأول من برامج الرؤية الذي تم الإعلان عنه، فقد سبقته برامج كثيرة تعنى بتغطية معظم الحاجات الأساسية للمواطن، كما أن برامج التحول الوطني المعلنة والتي التزمت وزارات الدولة وقطاعاتها بتنفيذها قبل حلول عام 2020 تسير بخطى متسارعة تحت الرقابة المباشرة من مجلس الاقتصاد والتنمية الذي يرأسه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وبمتابعة لصيقة من المركز الوطني لقياس أداء الأجهزة الحكومية (أداء)، بما يؤكد أن برنامج «جودة الحياة» هو محرك آخر لتنفيذ هذه الأسس المحورية في الرؤية.

وفي إجابته على مداخلتي، خلال برنامج تلفزيوني على قناة روتانا خليجية، أكد الرئيس التنفيذي لبرنامج «جودة الحياة» المهندس لؤي بافقيه ما ذهبنا إليه في مقدمة الحديث من شمولية البرنامج، وأن معظم مبادراته ترتبط بأجهزة من خارج البرنامج، وذكر تحديداً برامج مرتبطة بوزارة التعليم ووزارة الداخلية، كما قال أن جزءاً من البرامج المحورية ترتبط بوزارة الإسكان.

وقد سبق وأن تناولت قضية الإسكان هنا (17 كانون الأول (ديسمبر) 2017) وهي قضية حظيت بالكثير من النقاش والجدل في المجتمع السعودي نسبة إلى الأهمية الكبرى التي يحتلها السكن في قائمة الأولويات المعيشية للمواطن، ونسبة إلى ما تدركه الدولة من حجم التحدي الذي تشكله هذه القضية، وقد يكون من المفيد مراجعة ما حدث من تقدم في هذا القطاع، على أن نعود لمناقشة قطاعات التعليم والصحة والعمل وفق ما يتوافر من معلومات.

تقول الإحصاءات أن أكثر من 10 ملايين مواطن سعودي من الجنسين هم تحت سن الـ25، وأن معدل النمو السكاني يبلغ 2.5 في المئة سنوياً، وهذه الأعداد تعني أننا سنواجه أزمات حقيقية في السكن لو لم يتم تداركها بإيجاد الحلول الحاسمة والآليات المرنة والمستدامة لتوفير الأراضي وآليات التمويل لتملك المساكن.

بلادنا كانت تعاني من مشكلة فريدة لا تشبهها أي مشكلة في العالم، وهي تملك الأراضي البيضاء والمتاجرة بها من دون تنمية حقيقية، حتى انعدم إمكان توفير أراضي صالحة للبناء والسكن فيها داخل المدن الرئيسة، وكان الحل الحاسم في إصدار نظام رسوم الأراضي البيضاء الذي كسر هذا الاحتكار واضطر الملاك لتطوير أراضيهم داخل النطاق العمراني للمدن، ما مكن وزارة الإسكان من التفاوض معهم لبناء وحدات سكنية عليها منخفضة التكلفة وفي متناول الطبقة المتوسطة.

والمشكلة الثانية كانت تتمثل في شح آليات التمويل مع تردد البنوك في الدخول في سوق تمويل البناء السكني للأفراد وبقاء صندوق التنمية العقاري جهة وحيدة للتمويل مع محدودية موارده التي يصعب تدويرها، وطول قوائم الانتظار، لكن التنظيمات التي تمت مع البنوك بدخول الصندوق كضامن للمقترضين زاد من نسبة التمويل العقاري من البنوك بنسبة 120 في المئة بنهاية العام الماضي، مع تحمل الصندوق للفوائد المترتبة على القروض لمن يقل دخلهم عن 14 ألف ريال شهرياً.

كما تمكنت «الإسكان» لأول مرة من تنظيم السوق العقاري بإصدار سلسلة من الأنظمة التي ضبطت عمل المكاتب العقارية وشركات التطوير العقاري التي خصصت لها مجموعة من المحفزات للعمل على بناء المجمعات السكنية، ما ساهم في زيادة المعروض من المساكن وخفض أسعارها بصورة ملحوظة.

كل هذه الإجراءات أسهمت في رفع نسبة تملك المساكن بين المواطنين السعوديين إلى 49.91 في المئة عبر منتجات متنوعة أطلقتها «الوزارة» وحرصت على أن تكون بأسعار مقبولة ومناسبة للباحثين عن سكن، كما نجحت «الإسكان» في تنفيذ مشروعات في مواقع متميزة لقيت إقبالاً شديداً منهم.

ولعل أهم التطورات التي حصلت هذا العام كان في إطلاق برنامج الإسكان، وهو أحد برامج الرؤية الرئيسة الذي يضم في عضويته 16 جهة حكومية، مهمتها تذليل العقبات أمام عملية ضخ المنتجات السكنية في السوق، ويعِد البرنامج بأن ترتفع نسبة التملك إلى 60 في المئة بحلول عام 2020 و70 في المئة عام 2030.

هذا النجاح المبشر في قطاع الإسكان يعني أن أهداف الرؤية في تحقيق «جودة الحياة» ليست ببعيدة.