سليمان جودة

 الثابت أن مؤتمر مكة الذي دعا إليه خادم الحرمين الشريفين، وقوفاً إلى جوار الحكومة الأردنية في مواجهة عواصف كانت تتجمع في الأفق، قضى على الأزمة في الأردن في مهدها، ولكن انتهاء أزمة بهذا الحجم الذي تابعناه، لا يجوز أن يُنسينا أن لها وجهاً آخر، وأنه وجه يميزها عن سائر الأزمات التي صاحبت ما عرف بالربيع العربي في أكثر من عاصمة عربية!

فالمشهد الذي ظللنا نتابع تطوراته في العاصمة الأردنية عمان، على امتداد أيام الأزمة، ليس جديداً من حيث الشكل الذي كانت الشاشات تنقله من مكانه، لحظة بلحظة، ولا حتى من حيث المضمون الذي كان يتجلى في شعارات رفعها المتظاهرون الأردنيون، من أول المطالبة برحيل الحكومة، ومروراً بالإصرار على سحب مشروع قانون للضرائب، كانت حكومة هاني الملقي المستقيلة قد تقدمت به لمجلس النواب، وانتهاءً بطرح مطلب جديد مع مرور الوقت، هو استقالة المجلس الذي تلقى مشروع القانون!
ليس جديداً لأننا كنا قد تابعناه هو نفسه تقريباً، ولكن قبل سبع سنوات من الآن، وكان ذلك في تونس مرة، وفي القاهرة مرة أخرى، وفي صنعاء مرة ثالثة، وفي طرابلس الليبية مرة رابعة، وفي درعا السورية مرة خامسة... وفي كل المرات كان هناك قاسم مشترك أعظم، هو أن نظام الحكم في الدول الخمس كان نظاماً جمهورياً!
وفي الدول الخمس كان هناك قاسم مشترك أعظم آخر، هو أن المتظاهرين في العواصم الخمس كانوا ينتقلون في مطالبهم من مرحلة إلى مرحلة أخرى أعلى، وكانت الحكومة في كل عاصمة منها تتعامل في المقابل مع المطالب باستهانة لا تتوقع تصعيدها، ولا تتحسب للتصعيد، ولا ترى ماذا بعد التصعيد، وهو الأمر الذي انتهى إلى إسقاط الحكومات في أربع عواصم من بين العواصم الخمس... حدث هذا في تونس، وفي مصر، وفي اليمن، وفي ليبيا، وكاد يحدث في دمشق!
وكان السبب أن الحكومات الخمس لم تعزف على النغمة نفسها التي كان الشارع يعزف عليها، ولم تحاول ضبط الإيقاع مع الميادين، ولم تفكر في استيعاب الذين يتحركون أمامها في أكثر من شارع، وفي أكثر من ميدان، ولا في احتوائهم، قطعاً للطريق على أصحاب أجندات كانوا موجودين في خلفية الصورة، وكانوا يترقبون في انتظار أن تسقط الثمرة بين أيديهم... وهو ما حدث بالفعل! ففوجئنا بتيار الإسلام السياسي تنشق عنه الأرض، ليتسلم الحكم على طبق جاهز في كل عاصمة سقطت حكومتها... وكان الذين امتلأت بهم الميادين على موعد مع مفاجأة أخرى... وكانت المفاجأة بالنسبة لهم من النوع الموجع، لأنهم اكتشفوا أن الذين اختبأوا خلفهم من أصحاب الأجندات هُم الذين قفزوا على السلطة، وهُم الذين وظفوا كل متظاهر بريء في اتجاه تحقيق هذا الهدف، وهُم الذين تواروا انتقالاً من مرحلة المشاركة إلى مرحلة المغالبة!
ولكن المشهد نفسه في الدول ذات الحكم الملكي، كان له مسار مختلف تماماً، لأن قدرة الحكومات في هذه الدول على الحركة في مواجهة مطالب الشارع، كانت أسرع، ولأن وسائلها في قراءة ما وراء الصورة في عمومها، كانت أكفأ، ولأن هذه الحكومات الملكية كانت في بعض الحالات تزايد على الشارع ذاته، وكانت تسبقه بخطوة، وربما بخطوات، وكانت تستجيب للمطلب المطروح قبل أن يفوت أوانه، وكانت تفاجئ شارعها برغبة في الإصلاح تتجاوز ما يعرضه هو من مطالب!
حدث هذا في المغرب، وفي البحرين، بالتوازي، وكانت الحكومة المغربية هي التي بادرت مثلاً بصياغة دستور جديد استوعب مطالبات حركة شباب فبراير (شباط) عام 2011، فنقل الكثير من صلاحيات الملك إلى رئيس الحكومة!... ولولا خطوة كهذه وقتها، ولولا سرعة الديوان الملكي في استقراء الكثير مما راح يجري ويتفاعل حول القصر، لكانت تداعيات الربيع قد امتدت إلى السور، ولكانت قد تجاوزته إلى الداخل، ولكانت مطالب الحركة قد راحت تكبر مثل كرة الثلج، ولكانت الرباط قد لحقت بقطار الربيع في العواصم الأربع... لولا أن الله تعالى سلّم!
وفي البحرين كان قرار الملك حمد بن عيسى آل خليفة، مع العاهل المغربي على الموجة نفسها من الإرسال والاستقبال، فصدر قراره بتشكيل لجنة الدكتور بسيوني الشهيرة، التي كانت مستقلة إلى حد بعيد، والتي لما وضعت تقريرها عن حقوق الإنسان في الدولة، لم يناقش فيه الملك، وإنما نظّم حفلاً كبيراً في العاصمة المنامة، وأعلن توصيات اللجنة خلال الحفل، وأعلن التزامه بما جاء في التقرير، بنداً بنداً، دون أي محاولة للتملص، أو الجدل، وكان ذلك دليلاً على توافر صفاء النية، وعلى صدق الرغبة، وعلى جدية الخطوة!

ولم يكن الملك عبد الله الثاني بعيداً عن هذه الدائرة، فما إن خرج الأردنيون يحتجون على قرارات رفع أسعار المحروقات، حتى صدر قرار منه بتجميد القرارات، وما إن تمسكوا بسحب مشروع قانون الضرائب، حتى كان عمر الرزاز، رئيس الحكومة المكلف، قد أعلن أنه سيسحب مشروع القانون، بمجرد أداء اليمين الدستورية أمام الملك.
ولم يكن دستور ملك المغرب الجديد، يمثل ضعفاً للحكومة إزاء مواطنيها... كما قد يجري تصويره... ولا كان يمثل تنازلاً، ولكنه كان تجاوباً مشروعاً من جانب حكومة مع مطالب شعبية مشروعة أيضاً... وكذلك الحال مع تقرير الدكتور بسيوني... ثم كان الحال للمرة الثالثة مع شجاعة ملك الأردن في قراره. وفي الحالات الثلاث كان الوعي باللحظة حاضراً، وكان الإدراك لخطورتها قوياً، وكان الإسراع إلى تطويق الأحداث قبل اتساع نطاقها، وقبل امتداد رقعتها، هدفاً لا يغيب عن صانع القرار، ولا يتوه عن عينيه! ولذلك، ليست صدفة أن الحكومات الملكية في الرباط، وفي المنامة، وفي عمان، قد نجت من حريق الربيع دون استثناء... وليست صدفة أن الربيع الذي حاول أن يمر فيها، قد واجه طريقاً موصداً، فعاد عما كان قد عزم عليه، ولا هي صدفة أن الذين جربوا أن ينفخوا في ربيع العواصم الثلاث، من وراء ستار، قد اكتشفوا أن ما يمارسونه بلا جدوى، وبلا طائل، وبلا فائدة تُرجى، وأن عليهم أن يتوقفوا!
لماذا أخفقت الجمهوريات في تطويق نار الربيع... ولماذا نجحت الملكيات في تطويقها؟! هذا سؤال عُمره سبع سنوات... وفي اللحظة التي جرّب فيها الربيع إياه، طرق باب الأردن هذه الأيام، فإن عمان قد تعاملت معه بطريقة أعادت طرح السؤال من جديد!