عبد الامير المجر

 
يقول المثل الاسباني، (العادات تبدأ كخيوط عنكبوت ثم تتحول الى حبال) .. والغريب ان هذه الحبال، بعد ان نحكم وثاق انفسنا بها، نجعل منها مقدسة، وتصبح محاولة الخروج منها تمردا على القيم ..! 

قبل ايام كنت بمعية اصدقاء، نتداول شانا من شؤون وشجون البلاد، وتحديدا مسالة انتشار الامراض المختلفة، فقادنا الحديث الى الانتشار العشوائي للمطاعم الجوالة التي كثرت بشكل مخيف. يصاحبها انتشار مخيف آخر لظاهرة الذبح العشوائي للحيوانات، والذي يتم في الهواء الطلق ويباع على ارصفة الشوارع، وفي كلا الحالتين يتم هذا بعيدا عن اعين الرقابة الصحية، وعلى حساب الذوق العام .. 
لايداخلنا شك، ان هذه الظاهر، وغيرها الكثير، تمثل تحديا صحيا وبيئيا، وكذلك اخلاقيا، غير مسبوق، وان استفحالها وتعاظم ما يترتب عليها من مشاكل صحية وامراض، لايقل خطرا عن خطر الارهاب، وان التصدي لها بات ضرورة ملحة، لان مدننا فقدت ملامحها بغياب الارصفة والاماكن العامة التي استولى عليها اصحاب هذه الفعاليات المشوهة، مثلما فقدت مدنيتها وتوغلت عميقا في شكل جديد من الترييف، لايشبه ابدا الريف الذي نعرفه، ونعرف لمساته. 

لم يعرف العراقيون، او لم يترجموا بشكل عملي، مقولة .. العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق، الا بعد الحصار، اذ راحت تختفي تدريجيا العملة القديمة، بعد ان حلت محلها العملة المسكوكة محليا، كانت في البداية تعادل قوتها نفسها، الا انها تراجعت وانزوت امام الوافد الجديد، حتى صارت القديمة، جزءا من مضاربات السوق، قبل ان تختفي تماما وتصبح من ذكريات زمن مضى.

لقد تطرقنا في الحديث الى غياب مفردات كنا نراها ونقراها في العقود القريبة الماضية، مثل ( اغلق المحل لمخالفته الشروط الصحية)، لان احدا لم يستطع فرض القانون على المخالفين اليوم، ممن اخذوا يفتحون مطاعمهم في أي مكان يختارونه، وعلى أي رصيف، طالما ان الرقابة غائبة، وهذه تبدا بسلسلة تتكامل مع بعضها لتخلق مناخا مدنيا لم يعد موجودا. فالرصيف واحترامه من مهمة امانة بغداد وبلديات المحافظات، اما الطعام ونظافته، ونظافة ولياقة العمال، فمن مسؤولية وزارة الصحة ومؤسساتها المعنية، التي تغلق أي محل مخالف وتضع القطعة الشهيرة التي اشرنا اليها، ولم يجرؤ احد على رفعها، لانها موجودة بامر من الحكومة! ويبقى العنصر الثالث وهو الاهم، ونقصد ذوق المواطن، الذي يلعب الدور الحاسم في انتشار هذه الظاهرة او انحسارها، وهنا علينا ان نتوقف، ونعود الى المثل الاسباني الذي اعتقد ان كثيرا من الامثال العربية وغير العربية، مرادفة له او تنسج على منواله، ومنها عربيا.. التعلم في الصغر كالنقش على الحجر.. فالطفل الذي كان عمره عشر سنوات في العام 2003 اصبح عمره الان خمسا وعشرون عاما، وربما تزوج وانجب اطفالا، وهو يعيش وسط هذه الفوضى، التي ضربت كل مفاصل الحياة، فبدلا من ان يقرا عبارة .. اغلق المحل لمخالفته الشروط الصحية، صار يقرا وعلى نطاق واسع، مثلا، عبارة .. مطلوب عشائريا .. ولم يعد امامه فضاء بصري يحكمه الذوق العام وترعاه مؤسسات الدولة، اذ ازدحمت الارصفة بمختلف اليافطات وبشكل عشوائي، ناهيك عن قسوة بعض العبارات المكتوبة على زجاج السيارات وخلفياتها، الامر الذي حوّل فعلا، خيوط العنكبوت هذه الى حبال، صارت تخنق ابناء الاجيال السابقة، ممن تربوا على نظام مؤسسي يضبط ايقاع الشارع، ويحمي الذوق العام وصحة المواطن ايضا، بينما صارت هذه المشاهد، طبيعية جدا، بالنسبة لاطفال مابعد الاحتلال والمواليد الجديدة .. 

قديما ، قالوا، الوقاية خير من العلاج، ولكننا لم نعد نكترث للوقاية من أي شيء، بعد ان تشبع الكثيرون بمفردات واقعنا الغريب هذا، ولم نعد نمتلك العلاج، لان نصف العلاج، اصلا، يبدا بتشخيص المرض او العلة، وهو ما لم يعد الكثيرون يعرفونه، لكثرة المطرودات القديمة وانتشار الغازيات الجديدة!..