عبد الوهاب بدرخان 

تتضارب التوقّعات بالنسبة لقمة الرئيسين الأميركي والروسي في هلسنكي، ولا يوضح ما سبقها ويسبقها أي مستوى من النتائج يمكن أن تبلغه. فقد تكون الأولويات عند الطرفَين قابلة للتقاطع و«التوافق»، إلا أن المعطيات على الجانبين لا تشير إلى أنهما أنجزا رؤية عصرية معمّقة لـ«وفاق» دولي جديد. فعلى الجانب الأميركي، تواصل سياسات دونالد ترامب، نسف السياسات والتحالفات التي تبنّاها البيت الأبيض منذ غداة الحرب العالمية الثانية، لكن من دون بدائل واضحة وعملية، ذلك أن إفساد العلاقات مع الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي ودول الجوار الأميركي، وكذلك إشعال حرب تجارية مع الصين، لا يقوّيان الموقف التفاوضي لترامب أمام فلاديمير بوتين، بل يحقّقان الكثير مما يطمح إليه هذا الأخير دون أن يبذل أي جهد. فكلّما اضطرب استقرار المنظومة السياسية الاقتصادية الدفاعية التي تسيطر عليها أميركا وتديرها، اعتبرت روسيا أن ثمة ما يمكن أن تكسبه، سواء تدخّلت في الانتخابات هنا وهناك أم لم تتدخّل.

لذلك يميل العديد من المحلّلين الغربيين إلى اعتبار بوتين مهيّئاً أكثر للفوز في جولة هلسنكي، مثلما خلصوا إلى أن قاعدة النسبة والتناسب أخرجت الزعيم الكوري الشمالي «كيم جونغ أون» منتصراً من قمة سنغافورة، كونه نال اعترافاً بشرعيته وندّيته وأبقى بلاده في أكبر لعبة أمم ثلاثية، أميركية روسية صينية، دون أن يقدّم لترامب أي تنازل أو حتى «هدية». أما لماذا يمكن أن يفوز بوتين فلأنه يعرف ما يريده (الاعتراف بضمّ روسيا شبه جزيرة القرم، تسوية بشأن أوكرانيا تتيح رفع العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، وإزالة ما تعتبره موسكو تهديدات عسكرية أطلسية وعراقيل تجارية غربية، واتفاق شامل على تسوية الأزمة السورية). وهو يعتقد أن بإمكان ترامب أن يحرّك هذه الملفات في الاتجاه الذي يناسبه. كما أن بوتين يعرف ما لا يريده (أي خلل في الاتفاقات مع الصين أو إيحاء بدعم أميركا في حربها التجارية معها، أي تهميش للصين في أي تفاهم حول كوريا الشمالية، وأي تواطؤ علني على إخراج النفوذ الإيراني في سوريا.. إلخ).

لا بدّ أن تنظر الدولتان الكبريان في ملفات الأسلحة الاستراتيجية، سواء لمراجعة اتفاقاتهما أو لتجديدها، إذ إن الفترة السابقة شهدت سباقاً وتنافساً بينهما على إظهار التفوّق. فالرئيس الروسي انتهز حملته الانتخابية للترويج للأسلحة الجديدة -التي جرّبت ميدانياً في سوريا- ردّاً على الاستراتيجية الدفاعية التي أعلنها الرئيس الأميركي، واستبعدت الدولتان أي مواجهة مباشرة بينهما عندما قرّرت الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا شنّ ضربات جوية لمعاقبة النظام السوري على استخدامه السلاح الكيماوي. بالطبع لم تكن هناك رغبة في المواجهة، لكنّ الخبراء العسكريين لفتوا أيضاً إلى أن الطرفين تفاوضا على ضربة محدّدة ومحدودة تعرف موسكو مؤدّاها وتسهلها بفتح المجال الجوي ولا تتدخّل فيها، لئلا تُستدرَج إلى اختبارٍ لفاعلية أسلحتها الحديثة.

لكن أي قمة على هذا المستوى لا تُعتبر ناجحة إلا إذا كانت المكاسب متوازنة، أي أن بوتين مضطر لتلبية توقعات ترامب، خصوصاً في المسألتين الاستراتيجيتين اللتين تهمانه، أي الصين وإيران. لكن المصالح الحالية والمستقبلية بين روسيا والصين، أصبحت أكبر من أن يفكّر الرئيس الروسي في التفريط بها لمجرّد أن الولايات المتحدة منزعجة من اختلال الميزان التجاري بينها وبين الصين. وعدا عن أن علاقات موسكو وبكين لا تعاني من مشكلة كهذه، فإن بين الدولتَين توافقاً استراتيجياً على صدّ اندفاعات النفوذ الأميركي في شرق آسيا وجنوبها. أما في ما يخصّ إيران، فإن احتمالات توافق بوتين وترامب تبقى أكثر واقعية، إذ بات تحجيم الوجود الإيراني في سوريا مصلحة روسية أيضاً.

ومن جهته، يمكن لترامب التحرّك في حدود صلاحياته الرئاسية لإرضاء بعض طموحات بوتين. فقد يقدم على خطوات تضاعف التأزم مع الحلفاء الأوروبيين الذين باتوا أقرب إلى اليقين بأن أميركا ترامب بصدد التخفّف من التزاماتها الدفاعية معهم. لكن ترامب لا يستطيع التفرّد بتنازلات لن يتمكّن من تمريرها دون دعم الكونغرس ومؤسسات الحكم، وأي مواجهة داخلية في هذا المجال ستكون موضع ترحيب بوتيني، لكنها ستكون مصدر متاعب كبرى لترامب مع حزبه وأركان إدارته. وحتى لو اكتفت واشنطن بـ «المكسب الإيراني» المحتمل من قمة هلسنكي، فإنها تريد التضييق على إيران لاجتذابها، كما تفعل مع كوريا الشمالية، وهو ما لن تسمح به روسيا والصين في الحالَين.