وليد محمود عبد الناصر

يحتفل العالم هذه الأيام بالمئوية الأولى لميلاد الزعيم الجنوب أفريقي الأسطوري نيلسون مانديلا، والذي رحل عن عالمنا عام 2013، بعد أن قاد نضال شعبه للقضاء على نظام الفصل العنصري الذي ساد بلاده لعقود طويلة ولإحلال نظام يحترم تعدد الثقافات والأعراق بدلاً منه. 

كما أنه هو نفسه الزعيم التاريخي لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي، الذي قاد النضال منذ تأسيسه عام 1912 ضد نظام حكم الأقلية البيضاء في أشكاله المتعاقبة، والذي تم انتخابه بأغلبية كبيرة كأول رئيس للجمهورية في جنوب إفريقيا الجديدة، ورفض الاستمرار في منصبه الرئاسي لأكثر من ولاية واحدة، على رغم المناشدات الشعبية الواسعة داخل بلاده، وكذلك من خارج الحدود أفريقياً وعالمياً، باعتباره الرمز الموحد لشعبه والضمانة الأساسية للتحولات السلمية، والجذرية في آن واحد، التي شهدتها بلاده منذ عام 1994: عام سقوط «الأبارتهيد» وعام تولي مانديلا منصب الرئاسة.

وكان هذا الرفض للاستمرار في السلطة من جانبه قائماً في ذلك الوقت على اعتبارات موضوعية وأخرى ذاتية، وكان من ضمن الفئة الأولى من تلك الاعتبارات، أي الموضوعية، بدايةً يقين مانديلا ورهانه على أنه قد نجح خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى، على قصرها من الناحية الزمنية، في توظيف شعبيته الجارفة من أجل وضع الأسس الموضوعية السليمة والبذور السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتينة لبناء المجتمع الجديد الذي كان يتطلع إليه كل من ناضل ضد الفصل العنصري في جنوب إفريقيا في السابق، سواء من الخندق ذاته الذي ناضل فيه ومنه مانديلا أو من خارجه، مثل اليسار الأفريقي، أو الديموقراطيين والليبراليين والتقدميين في صفوف الأقلية البيضاء، أو الديموقراطيين والتقدميين في صفوف الملونين، أو التيار القومي في صفوف الأغلبية الإفريقية، أي مجتمع لا مكان فيه للتمييز أو التمايز بناءً على معايير العرق أو اللون أو العقيدة أو الثروة أو الجاه أو النسب، وإنما معيار التميز فيه هو العمل والإخلاص والإسهام في نهضة المجتمع والاقتصاد والدولة ككل.

وبالقدر نفسه كان مانديلا على قناعة بأنه نجح أيضاً في ذات الوقت في بلورة هوية وطنية واحدة تجمع بين مواطني البلاد أياً كان انتماؤهم العرقي أو القبلي أو كان لون بشرتهم أو انحيازهم العقائدي أو الأيديولوجي، وهي هوية قادرة على إنتاج نسيج مجتمعي جديد ومشترك يوحد ولا يفرق، مع احترام التباين والاختلاف، كما أنها هوية بها مكونات موجودة بالفعل ومستقاة من كافة الهويات الموجودة بالفعل على الأرض في المجتمع الجنوب إفريقي. 

وكان من معالم تلك الهوية وفق رؤية «مانديلا» الاسىتفادة من ثمار التقدم الاقتصادي والتكنولوجي والعلمي الذي تحقق على يد الأقلية البيضاء خلال حكمها، ولكن عبر توظيفه لمصلحة المجتمع ككل وارتكازه على معيار العدالة، ومع الابتعاد عما يثير قلق المجتمع الدولي أو البلدان المحيطة، ومن هنا جاء قرار جنوب إفريقيا الأحادي بالتخلي عن السلاح النووي وتفكيك بنيته التحتية طواعية مع التمسك باستخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية.

وارتبط بما تقدم نجاح مانديلا في بناء وعي مجتمعي مشترك على نطاق واسع شمل غالبية أبناء بلده. ونما هذا الوعي بدوره وتطور وانتقل إلى مراحل أكثر نضجاً وتقدماً بمرور الوقت، وأظهر نضجه على سبيل المثال في التوجه المشترك لدفع الرئيس الجنوب أفريقي السابق جاكوب زوما إلى الاستقالة من منصبه، عبر توافق أطياف المجتمع وأطراف السياسة. 

وارتبط بما تقدم أيضاً النجاح الملموس الذي حققه مانديلا في تحويل التنوع الكثيف والتعدد البالغ داخل صفوف المجتمع الجنوب أفريقي إلى مصدر قوة ومظهر ثراء للمجتمع والدولة على حد سواء بدلاً من أن يمثل مكمن ضعف أو مدخلاً لإضعاف المجتمع والدولة وفتح الباب أمام تدخلات أجنبية، إقليمية أو دولية، تحاول أن تلعب على وتر التنوع والتعددية بشكل سلبي من خلال إلقاء الضوء على نقاط التماس وأوجه التنافس أو الصراع، وتسعى لتطويع كل ذلك واستغلاله بما يحقق مصالح تلك الأطراف الخارجية وحدها، وعلى حساب المصالح المشتركة للشعب الجنوب الإفريقي بأكمله. 

وكان من أبرز معالم النجاح في هذه المهمة التمسك بالمواطنين البيض كمكون أساسي للمجتمع وعدم السماح بإرهابهم أو دفعهم للهجرة من جهة، أو بالانقضاض عليهم عبر إجاراءات تعسفية تستهدفهم كما حدث في حالة بلدان إفريقية أخرى في السابق من جهة أخرى. وكان من نتائج ذلك المنحى توسيع مساحة الثقة والأرضية المشتركة بين هؤلاء المواطنين وبقية مواطنيهم من الأفارقة والملونين وليس العكس.

أما الاعتبارات الذاتية التي أملت على مانديلا آنذاك عدم الترشح مجدداً فقد تنوعت وتعددت بدورها. فقد شملت إدراكه من جهة لتقدمه في السن، ومن ثم تراجع قدراته على قيادة وتوجيه الأمور في شكل يومي، وهو إدراك يحسب بالتأكيد له وليس عليه، كما أنه إدراك عاب على زعماء آخرين، أفارقة وغير أفارقة، قبل زمن مانديلا أو بعده أو بالتزامن معه، على حد سواء، عدم إدراكه أو إدراكه وتجاهله أو عدم أخذه مأخذ الجد، وهو الأمر الذي عاد على بلدانهم وشعوبهم بويلات كان يمكن تجنبها لو اتخذوا قرار الابتعاد من مقاعد القمة في السلطة التنفيذية في توقيت مناسب.

ومن جهة أخرى، أتصور أن مانديلا كان يعي، بخبراته المتراكمة وتجاربه الواسعة في الحياة عموماً وفي العمل السياسي خصوصاً، أن طول الاستمرار في السلطة قد ينال، ولو بمقدار ما، من رؤية الغالبية الساحقة من أبناء وطنه له باعتباره الزعيم الأسطوري الذي تحقق على يديه الحلم التاريخي لتلك الغالبية، أي القضاء على الفصل العنصري وحكم الأقلية البيضاء للبلاد. 

كما أن طول البقاء على قمة هرم السلطة التنفيذية يؤدي بالضرورة إلى بدء ظهور أوجه قصور أو نقص أو ضعف، سواء في السياسة أو الاقتصاد أو التعليم أو الرعاية الصحية أو غيرها من أوجه الحياة العامة واليومية للمواطنين، قد تستغل للنيل من قيمة هذا الزعيم الأسطوري ومن مقامه، وبالتالي من مكانته بين الجماهير وشعبيته لديها. 

لذا قرر مانديلا ترك السلطة، وهو في أوج شعبيته وتوهجه وعطائه، ومن ثم حظي بالتكريم والتبجيل من شعبه كرمز تاريخي. ومن جهة ثالثة، يدخل ضمن الاعتبارات الذاتية لدى مانديلا عندما اتخذ قراره بعدم الاستمرار بعد الفترة الرئاسية الأولى، رغبته في تحقيق أمرين في شكل متلازم: أما الأول فهو القيام بأشطة خدمة مجتمعية لقطاعات أكثر ضعفاً وحاجةً في صفوف شعبه، ربما لا يسمح وقته وهو في منصب الرئاسة بإيلاء الاهتمام اللازم والرعاية الواجبة لها، وأما الثاني فهو الرغبة في لعب دور إفريقي وعالمي يتخطي بكثير حدود جنوب إفريقيا الوطنية، بما يسهم في تحقيق السلام والعدالة والرخاء والتقدم في القارة السمراء وفي البيئة الإنسانية العامة الأرحب، بما في ذلك القيام بوساطات إفريقية ودولية.

وفي هذا السياق، تبرز مبادرات اتخذها مانديلا لا يتسع المجال لذكرها كافة هنا، ولكن في المقدمة منها بالتأكيد تأسيس جماعة «الحكماء» عام 2007، والتي لا تزال توجد أمانتها في العاصمة البريطانية لندن، وسعت للعب دور تجاه الكثير من الصراعات والقضايا والتحديات الدولية، بما في ذلك القضية الفلسطينية، وضم فيها الى جانبه شخصيات عالمية لها رونقها ووزنها ووراءها تاريخ من الإنجاز على الصعيد العالمي، ومنهم السكرتير العام السابق للأمم كوفي أنان، ووزير الخارجية الجزائري السابق الأخضر الإبراهيمي صاحب الباع الطويل في المهام الخاصة بالوساطات الدولية، والرئيسة الأيرلندية السابقة ماري روبنسون وهي أيضاً المفوض السامي السابق للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، والرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر ذو التاريخ الطويل بدوره في المساعي الحميدة إزاء الكثير من الصراعات الدولية.

وفي الاعتبارات الموضوعية والذاتية التي دفعت مانديلا إلى رفض البقاء في كرسي الرئاسة لأكثر من فترة ولاية واحدة، دروس مستفادة لا يزال لها قيمتها ودلالتها في عالمنا الراهن، وسيظل لها أهميتها طالما نتحدث عن زعماء وقادة ورموز وأساطير من البشر على جانب وشعوب ومجتمعات ودول وأمم من البشر أيضاً على جانب آخر، أي طالما بقي مسار التاريخ الإنساني كما عرفناه في الماضي ونعرفه اليوم وربما كما سنعرفه في المستقبل القريب على الأقل.

* كاتب مصري