محمد السعيد إدريس

كم كان لافتاً ذلك الصمت الذي التزم به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهو يستمع إلى نظيره الأمريكي دونالد ترامب وهو يتحدث في المؤتمر الصحفي الذي جمعهما معاً عقب قمتهما التي عقداها في هلسنكي الاثنين (16/7/2018) عن التزام كل من واشنطن وموسكو بأمن «إسرائيل»، ومتطلبات هذا الأمن في سوريا.

أحياناً يكون الصمت تعبيراً عن الرضا، وأحياناً أخرى لا يكون. لذلك أضحى ضرورياً معرفة هل كان بوتين راضياً عن كل ما ورد على لسان ترامب بخصوص سوريا، والوجود الإيراني فيها، والأمن «الإسرائيلي»، والتزامات كل من واشنطن بهذا الأمن، أم أنه لم يكن راضياً، وإذا لم يكن راضياً فما هي الأسباب، وماذا أخفاه بوتين بهذا الصمت؟

تحدث ترامب في المؤتمر الصحفي المشار إليه، وفي وجود بوتين عن اتفاقهما على أمرين يتعلقان بالأزمة السورية. أولهما: العمل بشكل مشترك للحفاظ على أمن «إسرائيل»، وتفعيل العمل باتفاق فك الاشتباك المتعلق بهضبة الجولان الذي جرى توقيعه عام 1974 (عقب حرب أكتوبر/ تشرين أول 1973)، وثانيهما: عدم السماح لإيران بالاستفادة من هزيمة «داعش»واستمرار التنسيق بين القوات الروسية والأمريكية في الأراضي السورية.

الأمر الواضح الذي كشفته ملابسات ذلك المؤتمر الصحفي أن الرئيس الأمريكي كان شديد الحرص على إظهار أن «إسرائيل» وأمنها حظيا بجانب مهم من القمة مع الرئيس الروسي، وأن «إسرائيل» وأمنها يمثلان «مصلحة مشتركة» للولايات المتحدة وروسيا معاً ، وهذا في حد ذاته تطور شديد الخطورة والأهمية، خصوصاً مع صمت الرئيس بوتين عن الإدلاء بأي تعليق. ترامب قال: «لقد عملنا طويلاً مع «إسرائيل»، ونحن أقرب دولة إليها، والرئيس بوتين يساعد «إسرائيل»، وكلانا تحدث مع نتنياهو، و»الإسرائيليون» يريدون القيام ببعض الأعمال بالنسبة إلى سوريا تتعلق بأمنهم، فنحن نريد العمل لمساعدة «إسرائيل» التي تعمل معنا منذ مدة طويلة. و»إسرائيل» ستعمل معنا، والرئيس بوتين وأنا نرغب في العمل لضمان أمن «إسرائيل»». 

إشارة ترامب إلى لقاء نتنياهو بالرئيس الروسي كشفت بعض جوانب الغموض الذي أحاط بصمت بوتين، وهذا الجانب يبدو أنه لا يخص فقط المطالب التي تقدم بها نتنياهو في زيارته الأخيرة التي تزامنت مع زيارة علي أكبر ولايتي مستشار مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية للعاصمة الروسية، التي وردت على لسان الرئيس ترامب في مؤتمره الصحفي في هلسنكي مع بوتين، أي إخراج إيران كاملاً من الأراضي السورية، وليس الاكتفاء بإبعادها والميليشيات الموالية لها عن الجولان، بما لا يقل عن 80كم، وإلزام النظام السوري، عند انتشاره في الجنوب باتفاقية فك الاشتباك الموقعة بين «تل أبيب» ودمشق عام 1974. 

هناك جانب آخر لصمت بوتين، وهو ما أشار إليه مصدر «إسرائيلي» رفيع لمجلة «نيويوركر» الأمريكية بأن «»إسرائيل» تعتقد أنه يمكن عقد اتفاق روسي- أمريكي في سوريا يدفع بالإيرانيين إلى الهامش، وأنه إذا تحقق ذلك يمكن أن يكون هذا بداية لتحسين العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا»، المهم في هذا الاتفاق هو «الثمن»، أو «الصفقة» التي تحدثت عنها الأوساط «الإسرائيلية» وتشجعها أطراف إقليمية شرق أوسطية، وترتكز على «استبدال أوكرانيا بسوريا»، أي رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على روسيا بسبب التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، وضم شبه جزيرة القرم، مقابل إبعاد روسيا عن إيران. 

هذه الصفقة ربما تكون هي ما عرضه نتنياهو على بوتين في زيارته الأخيرة له قبيل قمة هلسنكي بين بوتين وترامب، والدافع إليها هو الرفض الروسي لطلب «إسرائيل» بالانسحاب الإيراني الكامل من سوريا، وما أوضحته روسيا في مناسبات عدة أنها لا تستطيع إبعاد إيران كاملاً من سوريا، ولكن في مقدورها تحقيق «انسحاب إيراني جزئي»، خاصة من جنوب سوريا التي تهم «إسرائيل»، وهو ما أكده سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي بقوله إن «الطلب «الإسرائيلي» من موسكو بإنهاء الوجود الإيراني من سوريا، ومنع تحول سوريا إلى ممر لشحنات الصواريخ الإيرانية «لحزب الله» في جنوب لبنان غير منطقي، وغير واقعي أيضاً». 

أما الصفقة الأخرى التي يجري الترويج لها عقب قمة هلسنكي، فتتلخص في عرض يروج أن وفداً روسياً عالي المستوى كان على رأسه وزير الخارجية لافروف، ورئيس الأركان فاليري غيراسيموف، زار «تل أبيب» الاثنين الماضي، وعرض على نتنياهو صفقة تتضمن الانسحاب الإيراني الكامل من سوريا مقابل الانسحاب «الإسرائيلي» الكامل من الجولان، وأن نتنياهو رفضها هي الأخرى.

كل هذه الصفقات، سواء كانت حقيقية، أو لا، تزيد من غموض صمت الرئيس الروسي في مؤتمره الصحفي مع نظيره الأمريكي، وتفتح أبواب التأويلات أمام ما جرى في تلك القمة وتداعياتها المحتملة، ليس بالنسبة لسوريا فقط، بل أيضاً بالنسبة ل»صفقة القرن» الخاصة بفلسطين وتزامنها مع تصديق الكنيست على «قانون القومية» «الإسرائيلي» بكل ما يتضمنه من تهديد خطير، وغير مسبوق لمسار التسوية الفلسطينية.