&عبدالجليل معالي

الانتخابات القادمة في تونس مهددة بثقافة الهيمنة، وحتى إن تم استكمال تركيبة الهيئة في جلسة الثلاثاء القادم فإن استقلاليتها وعلويتها ودستوريتها ستظل مرتهنة للمناورات السياسية السابقة والقادمة.

&الاستحقاق الانتخابي المزمع تنظيمه في شهري أكتوبر ونوفمبر 2019، مهدّد بالتأجيل أو بمواجهة صعوبات جمة قبل إنجازه. التهديد الذي يواجه الاستحقاق القادم لا يقتصر على ما يكتنف العملية السياسية من تجاذبات وغموض، بل يمتد إلى أن الجهة المخوّلة بالتنظيم والإعداد والإشراف، الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، تعيش أوضاعا قانونية وهيكلية وبنيوية غاية في التعقيد.

بلاغ مجلس نواب الشعب الذي أفاد بأنه تم الاتفاق خلال اجتماع رؤساء الكتل على عقد جلسة توافقية الثلاثاء المقبل للحسم في أسماء المترشحين في الأصناف المعنية بالتجديد في مجلس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات تمهيدا للجلسة العامة الانتخابية، لم يحجب التخوفات التي أجمعت عليها كل المكوّنات السياسية في تونس، حول المآلات المخيفة التي تنتظر المسار الانتخابي إن تواصل الصراع الحزبي حول مسألة تقنية عنوانها تجديد أعضاء الهيئة وانتخاب رئيس جديد لها.

الرئيس المستقيل للهيئة، محمد التليلي المنصري أعلن أن “الهيئة دخلت مرحلة ضيق الوقت خاصة وأن أمامها ملفات كبرى لا بد من الانكباب عليها وحلها”، وكانت دعوته إلى الإسراع بسد الشغورات وانتخاب رئيس للهيئة تهدف إلى تفادي جميع “المخاطر الانتخابية”.

لم يكن إعلان الرئيس المستقيل للهيئة صيحة الفزع الوحيدة التي تطلق في ما يتصل بهذه المسألة المسكوت عنها في السجالات الراهنة للتونسيين. بل إن العديد من الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني أشارت إلى صعوبة أو شبه استحالة إجراء الانتخابات في مواعيدها المعلنة، في ظل التعقيدات الراهنة.

التعطيل الذي ساد، ويسود، تجديد هيئة الانتخابات يبدو في ظاهره تقنيا، باعتبار أن الخلافات السياسية تحت قبة البرلمان تتعلل بحجج قانونية أو إجرائية، من قبيل الاختلاف في الأولويات (انتخاب رئيس أولا ثم تجديد بقية الأعضاء أو العكس) إلا أن تلك الخلافات الإجرائية تخفي خلافات سياسية عميقة بين الأطراف السياسية التي تقود المشهد.

أطراف تجمع على ضرورة إنجاز الاستحقاق الانتخابي في موعده وتاريخه، وتتفق أيضا على اتهام الآخرين بالسعي لتأجيل الانتخابات. وهذا الإجماع، حول الموعد وحول الاتهام، يحيل إلى ما يسمُ المشهد السياسي التونسي من صراع أثّر على مسار استكمال كل المؤسسات: الهيئة الدستورية وهيئة الانتخابات وغيرهما.

معركة هيئة الانتخابات هي جزء من سجالات سياسية

كان يفترض أن يتحوّل الإجماع حول أهمية الاستحقاق الانتخابي إلى إجماع حول تذليل كل الصعوبات التي يمكن تعترض ذلك المسار، لكن ما حصل في تونس أن الحسابات الحزبية الضيقة وقع إسقاطها على كل شيء، وخاصة على استكمال إنجاز المؤسسات الدستورية والاستعداد للانتخابات، والتي أصبحت قطب رحى الصراعات ومدارها، تبعا للوعي بأهمية دورها ومركزية مهامها.

الخلافات الإجرائية “البسيطة” التي اعتبر غازي الشواشي، النائب عن التيار الديمقراطي، أنه “يمكن تجاوزها خلال سويعات بتقديم بعض التنازلات وإعلاء المصلحة الوطنية”، تتحول إلى سباق ضد الساعة كلما تقدم الوقت دون اكتمال تركيبة الهيئة لتنصرف في الإعداد البشري واللوجستي للانتخابات. لكن المهم في ما يتصل بالهيئة هو ضرورة الكفّ عن التدخل في شؤونها وصون استقلاليتها حتى تتمكّن من ضمان سلامة المسار الانتخابي.

في الجانب الخفيّ من القضية صراع سياسي عميق، أساسه لعبة ليّ الذراع بين النهضة والنداء، وقوامه السعي إلى السيطرة عن كل مفاصل المشهد السياسي، وفي هذا الباب فإن أغلب أصابع الاتهام تشير إلى ضلوع حركة النهضة في تعطيل استكمال انتخاب أعضاء هيئة الانتخابات ورئيسها، تبعا لأن الحركة “خلاف باقي الكتل البرلمانية تعارض بشدة انتخاب الأعضاء الثلاثة لهيئة الانتخابات قبل انتخاب رئيسها، في سعي منها للحفاظ على نفس التركيبة الحالية للهيئة. وهي تريد هيئة على مقاسها لتضمن الفوز في الانتخابات القادمة” على حد تعبير غازي الشواشي.

معركة هيئة الانتخابات هي جزء من سجالات سياسية تندلع ويزداد منسوب اشتعالها حسب أهمية المؤسسات والهياكل ذات التأثير على المسار الديمقراطي، وهذا يعني أن القوى السياسية التي تعي أهمية هذه المؤسسات الدستورية، تسعى دائما إلى أن تسيطر عليها بكل ما أوتيت من قوة وتحالفات ومناورات وتعطيل إن لزم الأمر.

ما يسود من خلافات حول هيئة الانتخابات في تونس، يدل على أن العملية السياسية في تونس مازالت قائمة على عقلية الغنيمة السياسية وعلى ثقافة السيطرة، وهو ما يؤدي إلى اختصار المسار الديمقراطي في يوم اقتراع وعملية انتخابية، دون اعتبار لأن المسار الديمقراطي هو مناخ سياسي وإعلام حر وقضاء مستقل ومؤسسات دستورية.

الانتخابات القادمة في تونس مهددة بثقافة الهيمنة، وحتى إن تم استكمال تركيبة الهيئة في جلسة الثلاثاء القادم فإن استقلاليتها ودستوريتها ستظل مرتهنة للمناورات السياسية السابقة والقادمة.

&