& يوسف الديني

&

يمكن القول إن ما نشهده من ردة فعل غاضبة للمجتمع السعودي بأطيافه المختلفة، خصوصاً جيل الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي تجاه استهداف المملكة من قبل منظمات حقوقية وجمعيات ترفع شعار دعم مؤسسات المجتمع المدني، أمر لافت للنظر، ولا سيما أن معظم هذا الجيل يخضع تحت ثقافة العولمة والإنسانوية الكونية، وكثير منهم درس في الجامعات الغربية ولامس الواقع هناك، واكتسب على سبيل التثاقف أو الممارسة العملية الكثير من القيم الحقوقية، وللأسف لم يتم استثمار ردة الفعل هذه بشكل إعلامي، حيث ظل حبيساً لفضاءات الإنترنت العابرة ذات الذاكرة القصيرة.
ساهم استهداف المملكة في وعي جديد في السعودية وحذر بالغ من رفع شعارات يتفق الجميع على مضامينها بشكل مجمل، لكن شيطان التفاصيل يبدو في أحسن حالاته اليوم مع ما نراه من تناقضات كبيرة قد تلقي بظلالها على الإيمان بتلك القيم في حال استمرت حملات التضليل والتدخل السيادي والاستثمار في المعارضات الذي وصل إلى الحد إلى استضافة شخصيات إرهابية وانقلابية ومتطرفة في وسائل إعلام عالمية تخصصت قناة «الجزيرة» عرّابة الفوضى اليوم في إعادة تدوير محتواها بشكل بات مملاً حتى لجمهورها الذي بات يرى أيضاً ذلك التحيّز ضد كل ما يمس السعودية، وإن لم يكن ذا قيمة سياسية أو إعلامية.


الاستهداف اليوم للسعودية بات رأسمالاً إعلامياً للاستثمار والمتاجرة من قِبل الكثير من تلك المنظمات والدول. وحين دخلت حالة خاشقجي على الخط، رغم اعتراف السعودية ومطالبة أعلى الهرم السياسي الملك سلمان بتقديم محاكمات عادلة وتحقيقات صارمة تبعها الكثير من التغييرات والإصلاحات لأجهزة الدولة ووزاراتها، فإن تلك الكيانات المستثمرة في تنميط السعودية من صحف ووكالات إخبارية مرموقة سرعان ما ارتبكت بسبب الشره المحموم لجلب الأضواء، وقعت في فخ الازدواجية والتحيّز الإخباري والتحليلي دون بنية صلبة لروافد العمل الإعلامي وقيمه الأساسية، كالمصادر وقراءة الحالة وفق معرفة حقيقية وعميقة للسعودية قلب العالم الإسلامي دينياً واقتصادياً وإغاثياً، كما هو الحال باعتبارها من أهم المساهمين في ترسيخ الأحلاف الدولية الكبرى السياسية والاقتصادية الأمم المتحدة؛ إضافة إلى دورها الريادي في ملف مكافحة الإرهاب باعتبار كبريات الدول الغربية، كالولايات المتحدة وبريطانيا اللتين استفادتا من تحذيرات متكررة تجاه عمليات إرهابية تم إحباطها بشكل استباقي إبان صعود موجة الإرهاب في المنطقة، والمفارقة كان للسعودية النصيب الأبرز أيضاً من استهداف العقل الإرهابي والمنظمات المسلحة سنيّها قبل شيعيّها.
المنظمات الحقوقية، وحتى بعض مكاتب بعض المنظمات الدولية التي تمتلئ بالمناوئين للسعودية من زاوية آيديولوجية لاعتبارات كثيرة، خسرت صورتها المثالية التي كانت تتقرب من حدود الأسطرة، وساهم ذلك في تغيّب حقائق وإشارات مهمة، حيث تختلف زاويا الحكم تتضخم القيم حين يأتي الحديث عن السعودية بينما تطل البراغماتية - الذرائعية برأسها مع أنظمة كارثية، حيث لا يستثمر أحد في الخرائب؛ ولذلك بات من المهم اليوم الفصل بين الإيمان بالقيم والمبادئ الكبرى المتفق عليها كحقوق الإنسان وكرامته وبين تطبيقات تلك القيم وإسقاطاتها على الواقع.
على مستوى المنظمات غير الدولية التي يعبر عن مبادرات شخصية مدعومة من دول ومجموعات ناشطة من المهم أيضاً عدم الركون إلى مسمياتها البراقة واللامعة، وإنما مساءلة مشروعيتها وخططها، والكشف عن تمويلها وحدودها، وطرائق العمل، فلا يمكن لمنظمة مجهولة يقوم عليها أفراد في مكان ما من العالم أن تمارس تلك الازدواجية ونقع في فخ الرهاب من نقدها من أجل الشعارات التي ترفعها، فعلى المستوى القانوني لا تدخل تلك المنظمات ضمن الاتفاقيات بين الدول للتعاون في الارتقاء بالمجتمع عبر أدوار واضحة ومحددة كما هو الحال مع منظمات تملك مشروعية عبر وضوح الهدف والتمويل والدعم مثل لجنة الصليب الأحمر، وليست تلك المنظمات أو الجمعيات ذات الصبغة الفردية، وهي في غالبها تقوم على سياسة المنح المالية لأهداف سياسية تعكس رؤية من يقوم على تمويلها عبر التذرع بدعم مؤسسات المجتمع المدني وحقوق الإنسان، وعادة ما تعمل بشكل غير قانوني يتدخل في سيادة الدول أو من خلال العمل من خارج تلك الدول بما يخترق السيادة، وربما كان دور مثل هذه الجمعيات هو البديل الآمن لدعم المعارضة مسلحة أو سلمية في حقبة الحرب الباردة، وبالطبع الحروب الإعلامية الساخنة التي تعد سلاح الدول التي تستثمر في الفوضى والخرائب بدعوى دعم الثورات أو نصرة قضايا الأمة... وغيرها من الشعارات التي نلحظ اليوم تحسس المجتمع السعودي منها، وهو أمر إيجابي.
منظمات وجمعيات الظل تبدو اليوم بديلاً لتنظيمات الإسلام السياسي معبأة بالوجوه والأشخاص ذاتها، ولا يمكن لها أن تعكس وجهة نظر سياسية مستقلة، ولا يمكن تجاوز أدوارها التقويضية دون السؤال عن سياقها القانوني في أنشطتها، فالكثير من تلك المنظمات التابعة لدول دعم الفوضى تعاني من تكريس أزمات واقعها السياسي نفسه من الاستبداد إلى التوريث إلى غموض الملف المالي حتى أصبحت تنتج الديكتاتور ببدلة مدنية، بل إن بعضها وقع في ذات أزمة التنظيمات الإسلاموية ذات الصبغة العالمية كـ«الإخوان»، حيث يستمر شخص أو أفراد على طريقة التدوير على رأس تلك الجمعيات والمنظمات وبملاءة مالية تعجز عنها بعض الدول الفقيرة الخارجة عن اهتماماتها أو أجندتها، وما يقال عن الجمعيات يمكن قوله دون حرج عن الأحزاب السياسية غير المرخصة أو التيارات الدينية التي تستبطن شعارات مدنية ذات بعد سياسي، حيث باتت تستبدل بنشاط المعارضة المحظور نشاط المؤسسات كنوع من التحايل على حالة «الفراغ».


دول الاعتدال ودعم الاستقرار، ومن بينها السعودية، تواجه اليوم خطراً جديداً يتمثل في الجمعيات والمنظمات ذات الأجندة السياسية، حيث باتت تشكل تهديداً متنامياً بأقنعة وشعارات تستغل المتفق عليه بعد أن لفظت المجتمعات عقب الربيع العربي وصعود الإرهاب شعارات استخدام العاطفة الدينية والمقاومة، وقد رأينا منذ موجات الربيع العربي تحول شرارة تهديد «فضيلة الاستقرار» الذي بات يشكل اليوم أولوية كبرى حتى لدى عدد من الدول الغربية التي لا يمكن المزايدة عليها كفرنسا مهد الثورة التي قلبت وجه العالم، والتي عانت في فترات ما من تضخم في منسوب تلك القيم، لكنها راجعت وتراجع اليوم أولوية الاستقرار والدخول في الأسواق العالمية والاقتصاد على حساب ما قد يمسّ هوية جمهوريتها مع «السترات الصفراء» التي تضيف إلى نقودات فلاسفة السياسة المستمر والصحي للديمقراطية وقيمها ومدى قدرتها على تمثيل الأغلبية الصامتة أو حتى الجماهير التي انتخبت وخاب أملها في نخبها التي لم توصل صوتها.
منظمات وجمعيات الظل التي تنتعش مع الأزمات وموجات الاحتجاج الجماهيري رغم تجربتها القصيرة استطاعت خلق حاضنات للفوضى بشعارات انتهازية للقيم الكبرى، وهو ما سبب ما نراه اليوم من حالة الارتباك والاستقطاب الحاد بين مكونات الكثير من المجتمعات في حين أنه بينما تظل الجمعيات التنموية غائبة عن لعب أدوارها عن دور حقيقي على الأرض يستثمر في الإنسان وليس في سوق المكتسبات السياسية السوداء.
الأكيد أن مثل هذه الأنشطة تتمايز عن عدد هائل من مراكز الأبحاث وخزانات التفكير التي تقدم أبحاثاً ودراسات معمّقة عن واقع المنطقة، وربما تقترح حلولاً تهدف إلى خلق مزيد من الوعي السياسي، لكنها لا تتدخل في سيادة الدول كما هو الحال في بعض الجمعيات الفردية المدعومة من دول بعينها، التي تحولت إلى منصّات لتدشين السلطة البديلة في حال النجاح في زعزعة الأوضاع في البلدان المستهدفة».


وبإزاء تراجع مؤسسات التنمية ودعم ما يحتاج إليه إنسان اليوم المصاب بإغراءات بورصات التسييس تراجعت أيضاً للأسف وضعية المراكز البحثية الكبرى بسبب الدخول في نفق البيروقراطية والتكلس وعدم مواكبة المستجدات ولأسباب تتعلق بالتمويل والإنفاق على هذا النوع من المراكز الاستشرافية، وهو ما سيخلق لاحقاً مناخات غير صحّية للاستقطاب بفعل «البروباغندا» السياسية التي تعتمد على استخدام أدوات الحشد والتعبئة والدعم وتتكئ على الخطاب الإعلامي الموجّه والمؤدلج.
الوعي المجتمعي الذي يشهده المجتمع السعودي تجاه أولوية الأمن والاستقرار ومحاربة التطرف، وكشف مؤامرات الدول والأنظمة وجيوش الإعلام الموجه تجاه بلادهم يبعث على التفاؤل، ويجب ألا يرتهن للمبادرات الفردية أو التعليقات العابرة المكلومة، بل في مزيد من الاستثمار في وعي الأجيال الجديدة التي تدافع عن مستقبلها وصانعيه.