&محمد علي فرحات&&

مهما بلغت حماسة السوري المعارض وغير المعارض يستطيع الانتساب إلى الوطنية السورية بقدر ما ينتسب إلى ولاء عقائدي أو شخصي. ثمة شرخ في الشخصية السياسية بدأ يتضح بعد الانقلاب العسكري الأول في 30 آذار (مارس) الذي أوصل الضابط حسني الزعيم إلى الحكم لمدة أربعة أشهر، لتتوالى الانقلابات التي بلغ عددها العشرين وجعلت الجمهورية السورية كرة يتقاذفها العسكريون في معزل عن الشعب، ما أدى إلى رسم مسافة بين المواطن والحاكم، استمرت حتى بعدما تسلّم حافظ الأسد الحكم بانقلاب أورثه لاحقاً إلى ابنه بشار.


والفكرة السياسية التي أعطت لونها إلى الحكم العسكري في معظم ولايته المديدة بين انقلاب وآخر، هي القومية العربية معبرّاً عنها بأدبيات حزب البعث التي تصدّرت الشعارات منذ أواسط ستينات القرن الماضي، وكانت زينة للحكم العسكري يستعرضها أمام السوريين والعرب والعالم.

وتزداد الشروخ في الوطنية السورية مع ملاحظة الاهتمام بل الاختصاص الذي يوليه حاكم دمشق بالدول أو بالشعوب العربية المجاورة، خصوصاً لبنان والأردن والفلسطينيين، والعراق إلى حدّ ما. كان السوريون في حرب لبنان الأهلية المديدة (1975- 1991) يلاحظون أن حكومتهم مطّلعة على تفاصيل حياة اللبنانيين السياسية والاقتصادية والثقافية، والأمنية بالطبع، أكثر من اطلاعها على تفاصيل حياة السوريين أنفسهم المفترض أنهم موضوع عمل هذه الحكومة واهتمامها، من حيث المبدأ. كانت الأجهزة السورية تملك معلومات تفصيلية عن الحياة اليومية في طرابلس وبيروت وصيدا أكثر من تلك التي تملكها عن الحياة اليومية للسوريين في حلب ودير الزور واللاذقية، بل حتى بعض أحياء دمشق الطرفية.

وكانت أجهزة الحكم في سورية تتابع تفاصيل التشكُّلات التنظيمية الفلسطينية وأفكارها السياسية وعلاقاتها الإقليمية بأكثر مما تتابع نهج العزلة والخوف لدى السوريين الذي أدى إلى هجرة نخبهم في وقت مبكّر.

أليس ملفتاً أن بيروت كانت العاصمة الثقافية للسوريين منذ مطالع خمسينات القرن الماضي، من باب ملء الفراغ الثقافي في دمشق، على رغم أن النخب السورية تحتل مراكز بارزة في الأدب والفكر السياسي والفنون على تنوعها؟

غياب الوطنية السورية، والأصح ضعفها وهزالها، أدى إلى المفاجأة المؤسفة التي ترافقت مع الحراك السوري المعارض منذ العام 2011، لكونه أرسى صراعاً بين مجموعات ترفض النظام من دون أن تتفق على تصوُّر أوّلي للبديل، في الحد الأدنى، ومجموعات التفّت حول النظام خوفاً أو تخوُّفاً من بدائل مجهولة لدى معارضة لم تحسن تسويق نفسها سياسياً فاستعارت شعارات إقليمية ودولية تهدف إلى نقل سورية من حلف إلى آخر أكثر مما تهدف إلى إصلاح النظام نفسه في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة.

غياب الوطنية السورية هو المشكلة واستعادتها وممارستها هما الحلّ بالمعنى الاجتماعي للسوريين الذين تفرّقت بهم السبل ويعيشون مأساة غير مسبوقة. واللافت بل الطريف أن الوطنية السورية استطاعت الحضور واستمرت في مجال وحيد هو الدراما التلفزيونية.

سورية الوطن على الشاشة الصغيرة، وسورية الضياع في وقائع التشريد داخلاً وخارجا. وما تنبغي الإشارة إليه أن مؤلفي المسلسلات الشعبية السورية التقطوا الحس الوطني وعمّموه بأفضل مما فعل كبار منتجي الأدب والفكر الذين انقسموا بين تقليدي وحداثي، قومي ويساري، ولم يتنبّهوا إلى الغائب الأكبر: الوطنية السورية.