ذكاء مخلص الخالدي

في الأسبوع الثاني من شهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي، أبقت وكالة «موديز» للتصنيف الائتماني تصنيفها للبنان عند B3 على أمل تشكيل الحكومة قريباً، بينما غيرت من استشرافها من مستقر إلى سالب بسبب ضعف السيولة الحكومية وقلق على الاستقرار المالي، فالأخطار المحلية والجيوسياسية الإقليمية أصبحت أكثر تعقيداً.

وأضافت الوكالة أن مقاييس المالية اللبنانية،والتي تعتبر من أضعف المقاييس للديون السيادية التي تقوم الوكالة بتصنيفها، ستضعف أكثر لتضيف مزيداً من أخطار السيولة والاستقرار المالي. وتضمن الإبقاء على التصنيف B3 الافتراض بقرب تشكيل حكومة وتطبيق إصلاحات مالية كجزء من حزمة استثمارية حكومية ستدعم نمو الناتج المحلي وتقلص أخطار السيولة. وأخذت المحافظة على التصنيف بنظر الاعتبار قدرة مصرف لبنان على المحافظة على درجة من الاستقرار المالي على رغم غياب استقرار العديد من المؤشرات الكلية والتوتر السياسي. وسيقلص الاستشراف السلبي لوضع لبنان من قدرة الأخير على الحصول على تمويل من المانحين الدوليين بالإضافة إلى وجود مخاطر سياسية عالية ستساهم في رفع كلفة التمويل.

ولم تمر فترة طويلة حتى أعلنت موديز في 21 الجاري خفض تصنيفها الائتماني للبنان من B3 إلى CAAL بعدما أبقته على حاله في المرة السابقة على أمل تشكيل قريب للحكومة. والسؤال هنا لماذا قررت موديز خفض تصنيف لبنان وغيرت استشرافها من مستقر إلى سالب؟ بعد أنْ كان لبنان مركز مالي وتجاري وثقافي وسياحي يستقطب العرب بشكل خاص وغيرهم بشكل عام ويتمتع بقطاع خاص حيوي يدير 83% من الاقتصاد اللبناني ودور صغير للقطاع العام لا يتجاوز الـ17 في المئة بنفقات محددة، جاءت الحرب الأهلية فأنهكت الاقتصاد ودمرت البنية التحتية والنسيج الاجتماعي وغيرت صورة لبنان إلى الأبد.

وتُظهر أرقام منشورة عن تطور النمو والدين العام بين عامي 1992 و2015، أن الأول ارتفع من 5.46 بليون دولار إلى 51.17 بليون، أي 937.2 في المئة، بينما ارتفع الثاني من 3.17 بليون دولار إلى 70.32 بليون دولار، أي 2218.30 في المئة. ولم يوجه الارتفاع الكبير في الدين العام إلى الإنفاق الاستثماري، بل إلى تمويل النفقات الجارية للحكومة كالرواتب والأجور، بعد التوسع الكبير في القطاع العام ودفع خدمة الدين وسد العجز في موازنة شركة كهرباء لبنان. وإنخفضت النفقات الاستثمارية الحكومية من معدل 0.97 بليون دولار سنوياً بين عامي 1995 و1999 إلى 0.43 بليون دولار عام 2014، ونسبة الانفاق الرأسمالي الحكومي من 7.92 إلى 0.9 في المئة.

وتشير معلومات حديثة إلى أن معدل النمو الاقتصادي عام 2018 كان نحو 1 في المئة، بينما نما الدين العام 8.4 في المئة. ويوضح الفرق بين النسبتين الحلقة المفرغة التي تدور بها الحكومة، ما أثار فزع المؤسسات الدولية ووكالات التصنيف الائتماني. وتقدر جهات رسمية، منها مصرف لبنان المركزي، أن نسبة الدين العام الاسمي إلى الناتج المحلي وصل إلى 152 في المئة عام 2018، وهو ثالث أعلى نسبة في العالم. وحذر صندوق النقد الدولي من أن لبنان يحتاج إصلاحات مالية سريعة تشمل خفض الإنفاق الاستهلاكي وتشجيع القطاع الخاص ليأخذ دوره الطبيعي في الاقتصادي والعمل على انحسار القطاع العام.

وعلى رغم أن الوضع الحالي في لبنان هو حصيلة تراكمات سنوات عديدة، إلا أن عام 2018 كان صعباً جداً، فمؤتمر «سيدر» الذي عقد في الربيع الماضي في باريس ووعد لبنان بمبلغ 11 بليون دولار منح وقروض، توقف تنفيذه رهن تشكيل حكومة جديدة. ولكن الكباش السياسي بين الأطراف المتنافرة عطل تشكيل الحكومة حتى الآن. وبدأت تلميحات بإمكان ذهاب المبالغ التي خصصت للبنان إلى دول أخرى مثل الأردن أو اليمن أو سورية، كما أثر ارتفاع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة سلباً في كل الأسواق الناشئة ومنها لبنان، حيث ترفع أسعار الفائدة العالية من كلفة الاستثمار وتعرقل النمو.

وكان القطاع الخاص بما فيه قطاع الأعمال في السابق لا يحصل إلا على ربع حجم الودائع التي تستلمها البنوك، بينما يذهب المبلغ المتبقي إلى إقراض القطاع العام وودائع يحتفظ بها مصرف لبنان المركزي. وتدفع البنوك حالياً أعلى أسعار فائدة شهدها البلد منذ عقد مضى على الودائع قصيرة الأمد بالدولار حتى تبقى داخل لبنان. وتسبب الارتفاع في أسعار الفائدة من جهة وتباطؤ النمو الاقتصادي والظروف السياسية المحلية والإقليمية واستمرار الأزمة السورية من جهة، إلى تباطؤ ملحوظ في نشاط قطاع الأعمال، حيث يشكو القطاع التجاري غياب زبائن بسبب تقليص الأفراد لإنفاقهم النقدي.

وفي الوقت ذاته، وعلى رغم الارتفاع في أسعار الفائدة تباطأت معدلات النمو في ودائع القطاع الخاص 7.2 في المئة عام 2016، إلى 3.8 في المئة عام 2017، وإلى 2.9 في المئة في أيلول (سبتمبر) 2018، ما يشير إلى أن الانخفاض في معدلات النمو، أثرت بوضوح في مداخيل القطاع الخاص.

* كاتبة متخصصة في الشؤون الاقتصادية.
&