&محمد نور الدين

ما بين موسكو وواشنطن تدور معركة كبرى لبلورة اتجاهات المستقبل في سوريا ميدانياً ودبلوماسياً.
الكلام لا يزال يتجدد حول تشكيل لجنة دستورية وإمكانية بدء عملها لوضع الخطوط العريضة للنظام الدستوري المقبل في سوريا. وتواجه هذه اللجنة عقبات كثيرة، منها انقسامات المعارضة وتأرجحها بين أيدي دول كثيرة. ثم إن المتغيرات الميدانية لا تعطي توازناً في اللجنة نظراً لأن المفاوضات في التقاليد الدبلوماسية تعطي الأقوى والمنتصر أرجحية تقرير النتائج السياسية.
أما في الميدان فإنه يشهد لغطاً والتباساً وغموضاً وحراكاً واسعاً لا يمكن التكهن بنتائجه. ولو نظرنا إلى موقف كل طرف على حدة لنجد رقعة شطرنج متحركة وقاتلة عند أي خطأ مهما كان صغيراً.
في الأيام القليلة الماضية، بل منذ إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانسحاب من سوريا نواجه مسارين أساسيين قد يتفرعان إلى مسارات.
من جهة نجد أن التواصل التركي - الأمريكي لم يتوقف. بدأ بوهب ( !) ترامب سوريا للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وتلاها إعلان أردوغان أنه توصل إلى اتفاق تاريخي مع ترامب حول سوريا. وبعد ذلك رفض ترامب أي تدخل تركي في سوريا إذا كان يتطلب ضرب «قوات حماية الشعب الكردية».
ومؤخراً حصل تطوران، الأول هو المفاوضات بين أنقرة وواشنطن بشأن ترتيبات المنطقة الآمنة التي يريدها أردوغان خالية من المسلحين الأكراد، والثاني زيارة الرئيسة المشتركة لمناطق الإدارة الذاتية في سوريا إلهام أحمد إلى واشنطن ولقاؤها مع ترامب ومسؤولين في الإدارة الأمريكية. ولفت ذلك في خضم الحديث عن جهود أمريكية للتوفيق بين أنقرة والأكراد السوريين لإقامة منطقة خالية من المسلحين وبرعاية تركيا، وهو بالطبع ما يعني منع عودة الدولة السورية إلى تلك المناطق. وفيما لو حصل هذا السيناريو فإنه سوف يكون فعلا تاريخياً لجهة أنه تصالح بين أكراد سوريا والنظام التركي. وهذا سيتناقض مع كل الطروحات التي رفعها أردوغان، كما الأكراد تجاه الآخر. لذا فإنه سيناريو مليء بالمطبات والأفخاخ ويتناقض مع وحدة التراب السوري، وستكون له تداعيات لا توفر الاستقرار في تلك المناطق في ظل المعارضة الروسية - الإيرانية- السورية لمثل هذه الترتيبات.
المسار الثاني هو ذلك الذي تقوده موسكو مع سوريا لتوفير مناطق آمنة في الشمال السوري، لكن تحت رعاية وتواجد وإدارة الدولة السورية، وقد وفّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأردوغان مخرجاً لائقاً بدعوته لتطبيق اتفاقية أضنة للعام 1998 والتي لا تزال سارية، لكن دون تطبيق عملي لها، وتنص على حماية الجيش السوري للأمن على طول الحدود مع تركيا، وهذا يعني تواري المسلحين الأكراد إلى ما وراء الستار بطريقة أو بأخرى وفق تفاهمات مع دمشق أو من دون تفاهمات.
لكن هذا السيناريو يرفضه الأكراد الذين يريدون تلبية بعض مطالبهم من الدولة السورية، ومنها إجراءات تعكس كيانية كردية ثقافية وأمنية ومالية وسياسية في مناطق شمال سوريا، وهو أمر لم توافق دمشق عليه.
كذلك فإن كلام وزير خارجية تركيا مولود تشاووش أوغلو عن تأييده تطبيق اتفاقية أضنة لأنها لصالح تركيا، أمر مشكوك فيه، لأن الاتفاقية تقتضي انسحاب تركيا أولا من المناطق التي تحتلها في جرابلس وعفرين وإدلب وإعادتها إلى الدولة السورية لحفظ الأمن فيها، فضلا عن عودة السيادة السورية إلى مناطق شمال شرق الفرات. ومثل هذا الانسحاب التركي ليس مضموناً، بل مستبعد في ضوء عدم اعتراف أنقرة بالدولة السورية، والأحاديث المتكررة للمسؤولين الأتراك بأنه لا يمكن التحدث والجلوس مع الرئيس السوري بشار الأسد. كذلك فإن التغييرات الديموغرافية والاجتماعية والدينية والتعليمية والأمنية وغير ذلك التي تقوم بها أنقرة في مناطق احتلالها في سوريا تعكس رغبة وجموحاً للبقاء فيها أو في نهاية الأمر إنشاء شريط نفوذ موال لها داخل سوريا على غرار الشريط الحدودي «الإسرائيلي» الذي كان في جنوب لبنان.
أيضا إلى هذا المسار، فإن مسار التفاوض بين دمشق والأكراد برعاية روسية يشكل حالة قائمة بذاتها وإن كان يسير ببطء شديد يعكس رهانات كل طرف على متغيرات ميدانية أو في المواقف السياسية هنا أو هناك.
ورغم كل كثافة المسارات الدبلومسية وفي ظل احتمالات انسدادها، يبقى سيناريو الصدام العسكري بين أكثر من طرف وفي كل الاتجاهات قائماً ليبقى الوضع في كل الشمال السوري من إدلب إلى القامشلي خارج أي بلورة حقيقية لأي مسار ومفتوحاً على أكثر من احتمال.

&