& صالح السلطان

&


العلوم والأفكار والنظم التي مصدرها الكون وليس الوحي في تطور مستمر. وهي عرضة وبقوة مع مرور الوقت للأخذ والرد ليس في فروعها فحسب، بل حتى في أصولها. وتبعا لذلك يطرح سؤال: هل يصلح في تلك العلوم الاستشهاد بما قيل في الماضي للحكم على ما يقال في الحاضر؟ الجواب طبعا لا يصلح.
وتطبيقا على علم الاقتصاد، ينبغي أن يستشهد بالمعايير والأصول والآراء والنظريات التي تعبر عن التفكير السائد في علم الاقتصاد الآن، وليس في القرن الـ19، مثلا. أقول ذلك لأن بعض الناس يستشهد لوقتنا بمبادئ وأفكار ونظريات قيلت قبل ردح من الزمن، كما لو أنها ضمنا ما زالت سارية المفعول.
بدأ تطور علم الاقتصاد بخليط بين نوعين من المناقشات؛ الأول محاولة فهم ما هو كائن في مكونات الاقتصاد كالثروة والدخل والإنتاج والاستهلاك، وكيف تزيد وتنقص. والآخر مناقشات ذات طابع أعم فكريا فلسفيا لفظيا. ومع الوقت استقل علم الاقتصاد عن الفلسفة، واعتمد الاستقلال على فهم وتحليل كمي لأساسات تحكم مكونات الاقتصاد، أساسها كون الموارد لها حدود، والرغبات في الموارد ليس لها حدود. وتسمى أحيانا المشكلة الاقتصادية. وأيا كان الاسم فهي حقيقة في الدنيا. ويتبع ذلك تحليل وفهم علاقات وآثار بصورة كمية. من هذه العلاقات طبيعة العلاقة بين العرض والطلب بصورة كمية، ما يعطيها موضوعية أقوى. ونفهم من كون الرغبات ليس لها حدود وجود تأثير جوهري للحوافز المادية في الإنتاجية والابتكار.
لو قبلنا منهج الاستشهاد بأفكار ونظريات قيلت في الماضي كما لو أنها ما زالت مقبولة الآن لصرنا في مشكلة مع علوم كثيرة أصبحت ضرورية للحياة والحضارة المعاصرة. بل لوصل بنا الأمر إلى تحريم كثير من العلوم والتخصصات المشروعة الآن، لأنها خلطت في الماضي بين حق وباطل، وبين تعليم المشروع وغير المشروع، أو بدأ تطورها على تعليم ما هو غير مشروع، وربما كانت الكيمياء أوضح مثال، وهو علم لا تقوم العلوم والتخصصات التجريبية التطبيقية كالطب والصيدلة والصناعات المعاصرة بدونه، ولنتذكر مصانع "سابك"، وهذا يوضح مدى أهميته. فكيف كانت حالته في الماضي؟ نجد الجواب عند ابن تيمية- رحمه الله.
يقول في فتاواه تحت باب الحسبة، أثناء حديثه عن الغش: "ومن هؤلاء "‏الكيماوية"‏ الذين يغشون النقود والجواهر والعطر وغير ذلك فيصنعون ذهبا أو فضة أو عنبرا أو مسكا أو جواهر أو زعفرانا أو ماء ورد أو غير ذلك، يضاهون به خلق الله.. وكانت المخلوقات من المعادن والنبات والدواب غير مقدورة لبني آدم أن يصنعوها، لكنهم يشبهون على سبيل الغش...".
هل نأخذ بما قاله ابن تيمية ونطبقه على الكيمياء الآن؟ من يقل بذلك لم يتصور الكيمياء إلا بالشكل الذي ذكره ابن تيمية. وأرى أن هذا الجمود في الفهم والتصور كان من أسباب تخلف المسلمين حضاريا في قرون خلت.

من الاقتصاد السياسي إلى علم الاقتصاد


أهم قضية تركز عليها النقاش في الفكر الاقتصادي في بدايات ظهور علم الاقتصاد وخلال القرن الـ19 "خاصة أفكار آدم سميث وكارل ماركس" كانت حق الملكية، ويتفرع منها أو يبنى عليها قضايا كبيرة كحرية السوق وحرية التصرف، أصالة أو نيابة عن الغير. في الوقت الحاضر، أصل حق الملكية صار موضع شبه إجماع بين القانونيين والاقتصاديين وصانعي القرار من سياسيين ومسؤولين حكوميين. وفي الوقت نفسه، هناك إجماع على رفض الملكية المطلقة، ومن ثم تبقى المسألة في التنظيمات والضوابط التي تحد من ممارسة حق الملكية، وتبعا لذلك، تحد من حرية السوق، أي حرية البائعين أو المشترين، وهي ضوابط تخضع للتطوير والتغيبر، انطلاقا من إساءة استخدام الأصل.
أما في وقتنا فتتزايد الأصوات المطالبة بمزيد من الضوابط والقيود على المؤسسات المالية في التصرف فيما في حوزتها من أموال. ووضع الضوابط والقيود يناقش من منطلقات معايير وافتراضات تبنى عليها النظريات الاقتصادية. لنأخذ مثلا، منع المصارف من أعمال الوساطة المالية، وأن تمارس هذه الأعمال من خلال مؤسسات مستقلة. أهم سبب هو تعارض المصالح. ومستند فهم هذا التعارض معايير وافتراضات يبنى عليها السلوك الاقتصادي للإنسان.