& خالد القشطيني

&

وأقصد بها كل هذه الشهادات والمستمسكات والجوازات والباسبورتات والوثائق التي عشت بها وعليها وأصبحت متعلقاً بها. للغرب منجزاته وأساليبه المتحضرة. لكن أيضاً له مناقصه وسلبياته. لا شيء يزعجني فيهم غير استخفاف موظفيهم بالوثائق والشهادات. خذوا مثلاً تعاملهم مع جوازات السفر. كم قضيت من الجري والكفاح وتحمّل المصاريف حتى حصلت على جوازي البريطاني. ما زلت أتذكر اليوم الأول الذي استعملته فيه في طريقي لفرنسا. أخرجته من جيبي وأنا في تلك الحالة من الشوق والاعتزاز لأعرضه على ضابط السفر البريطاني في دوفر. ما كان منه غير أن تثاءب في وجهي، وأشار إليّ بطرف إصبعه أن أمرّ ولا أزعجه بباسبوري. شعرت بخيبة كبيرة تعرفها أي امرأة صالحة تطبخ كبة ممتازة لزوجها فلا ينبتْ بأي كلمة إعجاب واحدة. هكذا كان شعوري. لكنها كانت خيبة تقل بكثير عما تلقيته من الضابط الفرنسي عند وصولي إلى كاليه. لم يسمح لي حتى بأن أخرج باسبوري وأعرضه عليه. ما أن رأى طرف الجواز حتى أومأ لي برأسه أن أمرّ ولا أعكر عليه صفو فنجان القهوة الذي كان أمامه. منتهى الاستخفاف بما يحمله الإنسان من وثيقة.
قارنوا ذلك بما يجري عندنا. ذهبت إلى بلد خليجي وقدمت الجواز نفسه للمأمور. ما أن تسلمه حتى تنحنح وأخذ نفساً عميقاً وبدأ يعطي الجواز ما يستحقه من الاهتمام والاحترام. راح يقلبه ويقرأ كل كلمة وحرف فيه بشغف واهتمام. وكان استمتاعه بقراءته بادياً عليه من قيامه طوال الوقت بفتل شاربه الضخم. ما أن رأى محل الولادة بغداد حتى نادى على رئيسه ليشاركه بالمتعة. سارع إلى علبة السجائر وأعطى واحدة لزميله. وتحت سحابة الدخان راحا يتحاوران ويتبادلان النظرات. فكم مرة يحدث في العمر أن يشاهدا جواز سفر يحمل اسم بغداد. حاجة تفرفش وترد الروح. ساعتان وهما يتباركان بالجواز ويمعنان النظر فيه.
كانت تجربة تفرح القلب. جعلتني أشعر تماماً بعظمة هذه الوثيقة التي تهالكت في الحصول عليها. فالمواطن منا لا قيمة له بحد ذاته. قيمته وأهميته تنحصر في الوثائق التي يحملها. بل يمكن القول إنه مجرد صندوق لإيداع الوثائق. إنه مثل أي خزانة أو دولاب في مديرية الأمن. الدولاب لا قيمة له بحد ذاته، لكنه يضم وثائق ثمينة وخطيرة. ما أن يضع المواطن جوازاً جيداً كامل الفيزات في جيبه حتى ترتفع قيمته بصورة مدهشة. وضابط السفر الجيد يعرف ذلك ويعطيه ما يستحقه من تقدير. حتى المواطنات ما أن يسمعن برجل يحمل جواز سفر جيداً حتى يتنافسن عليه. مضى ذلك الزمن حين كان الأب يسأل عن شهادات الخطيب ووظيفته وأملاكه. السؤال اليوم: أي باسبورت يحمل؟ غير مزور؟ ما هي الفيزات التي عليه؟ إلى أي بلد؟
وهذا كله نتيجة التقدم في مستوى المواطن كإنسان من ورق. إنه يشعرنا بأهميتنا وقدراتنا. فبينما كان الأجنبي ينظر للمواطن العربي كإنسان خايب عاجز، يتحول فجأة إلى عملاق قادر على كل شيء حالما يضع في جيبه حفنة من الأوراق المختومة.