& عبد المنعم سعيد

&&

في هذا المقام، سوف أشير إلى الشروخ الجارية في أوروبا والمعسكر الغربي عامة، فأسباب ذلك يطول شرحها، خاصة أن الواقع يشهد أن الشروخ تتعمق وتزداد، بل إنها بدأت تنتقل من ساحة العلاقات الدولية إلى ساحات السياسة الداخلية؛ ويكفي أن ترى ما تفعله خطوة «بريكست» في الداخل البريطاني، وما يفعله إصرار ترمب على بناء السور مع المكسيك على السياسة في الكونغرس الأميركي والسياسة الأميركية بشكل عام، حيث الشروخ تتزايد بين الولايات وبين الأحزاب والإعلام.


وحديثاً أصدر مركز «بلفر» للعلوم والشؤون الدولية في مدرسة جون كنيدي للحكومات بجامعة هارفارد تقريراً بعنوان «حلف الأطلنطي في السبعين... تحالف في أزمة» لكاتبيه نيكولاس بيرنز ودوغلاس لوت، يُفصّل أبعاد وأعماق الشرخ الجاري في العلاقات بين الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا. ولا شيء يمكن أن يظهر الأزمة قدر ما حدث في المؤتمر الذي انعقد الأسبوع الماضي في وارسو، والذي كان غرضه من ناحية مواجهة العدوانية الإيرانية، ومن ناحية أخرى تحقيق الاستقرار والسلام وعودة التنمية إلى الشرق الأوسط.&
ولعل انعقاد مؤتمر يتعامل مع مشكلات ومعضلات الشرق الأوسط بشكل متكامل لا يوجد فيه ما يعيب. ومع ذلك فإن الطريقة التي حضّرت بها الولايات المتحدة لانعقاده كان فيها من المفاجأة الكثير، بالإضافة إلى الشروخ الأوروبية الأميركية أكثر من تكوين موقف موحد تجاه قضايا المنطقة.&
كل ذلك يمكن إرجاعه إلى الاتفاق النووي الإيراني، أو إلى القرار الأميركي المنفرد بالانسحاب من الاتفاق، ولكن ما بدا في وارسو أن كثيراً من الحكومات في أوروبا وخارجها قد قررت أن التعامل مع الإدارة الأميركية الحالية أصبح صعباً ولا يسير وفقاً للتقاليد التي جري رسمها وتحديدها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ومن ثم لا يوجد حلّ لمعضلة أن الولايات المتحدة دولة من الأهمية بحيث لا يمكن الاستغناء عنها، من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن دونالد ترمب ونائبه مايك بنس ليسا من القيادات التي يسهل التعامل معها.&


أوروبا ممثلة في ألمانيا وفرنسا، وبريطانيا معهما، في هذه النقطة على الأقل ربما لن تدخل في مواجهة مع أميركا، ولن تسعى إلى هدم حلف الأطلنطي، وإنما سوف تنتظر انحسار موجة اليمين المتطرف والانعزالية الأميركية في السياسات الغربية.
القضية هنا ماذا تفعل الدول العربية، في وقت يتعثر فيه التحالف الغربي، وتزداد شروخه، سواء أكان ذلك مؤقتاً أم طويل المدى؟ الحقيقة هي أن دول العالم عندما تواجه مثل هذه الحالة، فإنها مطالبة أولاً بأن تكون «الرؤوس فيها باردة»، فإن مثل ذلك في العلاقات الدولية ليس بجديد، وهو شائع في المراحل الانتقالية في التاريخ، ومن الحكمة دائماً انتظار انقشاع السحب والغيوم. وثانياً بالاعتماد على الذات، بمعنى الكشف عن عناصر القوة الكامنة، ودعمها، ودفعها إلى أكثر مراحلها تقدماً ورفعة. وثالثاً بإقامة التحالفات والعلاقات الممكنة، التي تضيف لعناصر القوة الذاتية، ولا تخصم منها. ورابعاً بالبحث في العالم عن تنويع العلاقات الدولية. وفي حالتنا فإنها ليست الاستغناء عن الغرب، أو التخلي عن العلاقات الوثيقة مع الولايات المتحدة، وإنما يكون هذا وذاك في ظل الإدراك للحالة التي وصلا إليها. ولا مانع من استكشاف علاقات جديدة تضيف للاقتصاد والسياسة والأمن القومي.&
ولحسن الحظ فإن عدداً من الدول العربية تمر حالياً بعمليات إصلاح واسعة وجذرية، خاصة في السعودية ومصر والإمارات، وكلها تضيف لعناصر القوة العربية. وفي الحقيقة إن الحديث الكثير عن «الناتو» العربي لا ينبغي له أن ينفي أن هناك تحالفاً عربياً قائماً بالفعل بين السعودية ومصر والإمارات والبحرين، والدول الأربع على علاقات وثيقة عسكرية واقتصادية مع الأردن والكويت. الخطوة المقبلة هي أنه مع الإبقاء مع ما هو ممكن وغير سلبي مع المعسكر الغربي ومشكلاته الراهنة، فإن فتح الأبواب مع الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية والبرازيل سوف يضيف ولا يختصم من القوة العربية خلال هذه المرحلة الانتقالية.


ولعل الجولة التي يقوم بها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، إلى باكستان والهند والصين تسير في هذا الاتجاه. فالوزن الاستراتيجي للملكة العربية السعودية معروف، سواء أكان ذلك بحكم مركزيتها في العالم الإسلامي، ووزنها داخل الدول العشرين في العالم، ومكانتها النفطية، وموقعها الجيوسياسي بين البحر الأحمر والخليج العربي، أم كان ذلك نتيجة تراكم السياسات التي اتبعتها المملكة خلال العقود الماضية، فإن ذلك كله لا بد أن تضاف له النهضة الإصلاحية المتعددة الأبعاد الجارية في المملكة. هذه النهضة تضاعف من قيمة كل هذه الأبعاد السابقة، بحكم إدراجها الملكة في ساحة العالم المعاصر من ناحية، وما تفتحه من فرص لكل الأطراف الدولية والإقليمية من ناحية أخرى، حيث باتت المملكة ورشة هائلة للتطور والنمو، تشملها المشروعات العملاقة، التي تسير فيها خلال هذه المرحلة غير المسبوقة في التنمية.
لكن الزيارة لها بعد آخر يتعلق بآسيا عامة، والصين والهند بوجه خاص، وهي أن آسيا الآن باتت قطباً اقتصادياً كبيراً في العالم، فنصيبها الآن من الناتج المحلي الإجمالي يكافئ شمال أميركا وأوروبا، أو الغرب عامة، ولكل منهما 35 في المائة من الناتج المحلي العالمي. والأمر المهم هنا أن آسيا عامة، والصين والهند خاصة، دول تعتمد على النفط في نموها الاقتصادي. ومن المعلوم أن الهند والصين بهما نحو ثلث سكان العالم، كما أنهما معاً تشكلان قطبي النمو في السوق الدولية، وكلاهما تعتمد على نفط المملكة، كما أن كلتيهما من الأقطاب التكنولوجية في عالم اليوم. ولذلك فإن الدلالة الأولى للزيارة هي أن المملكة في إطار نهضتها تُوازن حركتها العالمية بالبعد الآسيوي المهم والمتنامي في الأهمية العالمية. أما الدلالة الثانية فهي أن الزيارة ليست اقتصادية فقط، بل إن لها أبعاداً استراتيجية حيث إن باكستان فوق كونها قطباً مهماً في العالم الإسلامي دولة نووية من ناحية، ومن ناحية أخرى قوة عسكرية يعتدّ بها.
... وأخيراً فإن باكستان تشكل نافذة مهمة على أفغانستان التي تنطلق منها عمليات الانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط، بكل ما يشمله ذلك من تبعات لها علاقة بالإرهاب ومنظمات القاعدة و«داعش» وغيرها.

&