&عبدالله ناصر العتيبي&

عندما أعطى الأوروبيون ظهورهم لتركيا قبل سنوات، رافضين انضمامها إلى المنظومة الأوروبية بحجة أن عليها أن تبذل المزيد من الجهود لتصبح دولة أوروبية، أدار رجب طيب أردوغان وجهه باتجاه العالم الإسلامي، واندفع في شكل براجماتي واضح في إلباس النظام الأتاتوركي عمةً تراثية جاعلاً منه مسخاً سياسياً معاصراً لا شبيه له. فعل الرجل ذلك لا من أجل أن يعيد لتركيا هويتها الإسلامية المفقودة، وإنما ليبتز الأوروبيين ويضعهم أمام خيارين لا ثالث لهما: إما قبول عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي من دون الدخول في دهاليز الشروط التعجيزية، وإلا فعليهم مواجهة خطر النسخة الجديدة من تركيا العثمانية!!

قبل سنوات قليلة كانت تركيا بقيادة أردوغان عندما كان رئيس وزراء في وضع صعب للغاية! الدولة القوية التي استطاعت أن تعبر ببقايا «الرجل المريض» من مرحلة الهزيمة في عشرينات القرن الماضي إلى عصر من الاستقرار في النصف الثاني من القرن نفسه لم تكن في حال جيدة، إذ إن الجيش الذي كان يحمي العلمانية المتوهمة، ويحكم البلاد فعلياً طوال العقود الثمانية الماضية لم يعد قادراً على أداء مهامه الداخلية بسبب «موت النظرية» التي كانت تنتقل من رأس جنرال لآخر!! الجيش الذي كانت توكل له دائماً مهمة إعادة تركيا لمبادئ مصطفى كمال أتاتورك كلما خرجت قليلاً عن المسار، أصبح مقيداً بمعتقدات مترهلة وأفكار ميتة، ولم يعد بوسعه التخلص منها، ولا الاستسلام لها، ما جعل حاضر تركيا ومستقبلها يدخلان دائرة المجهول، فلا الجيش قادر على الاستمرار في الحكم من وراء حجاب، ولا البنية السياسية القائمة قادرة على إنتاج تحول ديموقراطي سلس.

كان على أردوغان ونخبته السياسية البحث عن طريق خلاص يحمل تركيا لمرحلة جديدة تستطيع الصمود فيها لـ70 أو 80 سنة مقبلة، وتسهم في خلق طبقة سياسية جديدة تمارس الدور نفسه الذي كان يقوم به الجيش في القرن الماضي. وكان من الواضح جداً أن هذا الطريق هو الانضمام للاتحاد الأوروبي، فالمصالح الاقتصادية المترتبة على دخول تركيا النادي الأوروبي وجدران الحماية التي ستحيط بالنظام الحاكم ما أن يفعّل نديته للأنظمة الديموقراطية الغربية ستسمحان لأردوغان وحزبه بإحكام قبضتهم على البلاد باسم البناء وظروف المرحلة، وستخلق «نظرية جديدة» تحت اسم «تركيا الأوروبية» تكون مهمة حراستها موكلة لحزب العدالة والتنمية، حتى وإن كان الرئيس التركي بعد 30 أو 40 سنة من حزب آخر.



رجب طيب أردوغان هو مصطفى كمال المرحلة الجديدة، وحزب العدالة والتنمية في مكان ومكانة الجيش. وتركيا الأوروبية هي البديل الشعبي القابل للتسويق بديلاً عن خدعة «العلمانية» التي استمرت لعقود!

هكذا أراد أردوغان وحزبه تركيا الجديدة، لكن الأوروبيين كان لهم كلام آخر. ربما لأنهم بالفعل يريدون أن يروا في تركيا تغييرا أكثر يجعلها أقرب للقيم الأوروبية ما يسمح لها بالالتحاق بهم، وربما لأنهم لا يريدون أردوغان تحديداً، ويشترون الوقت كل هذه السنوات بانتظار تقاعده لبدء جولة جديدة من المفاوضات.

لكن أردوغان وإن فكر مرة من أجل مصلحة تركيا، فقد فكر مرتين في مصالح حركة «العدالة والتنمية»، وهذا ما جعله يدير وجهه أولاً باتجاه العالم الإسلامي مسوقاً خدعة «الدين والأخوة»، ثم يتلو ذلك بإنهاء سيطرة الجيش على الحياة السياسية بعد الانقلاب المزعوم في العام ٢٠١٦. وكان لا بد له أن يفعل ذلك لسببين: أولاً لأن الجيش مثلما ذكرت كان قد اقترب من حالة الانهيار الكبرى بسبب ترهل آيديولوجيته العلمانية، ولا بديل لسقوطه إلا الفوضى التي ستأخذ أردوغان وحزبه في طريقها، وثانياً لأن الجيش سيقف في وجه مشروعه البراغماتي خوفاً من تحوله إلى واقع صعب التغيير على الأرض.

أدار أردوغان وجهه تجاه العالم الإسلامي ثم راح بلا جيش وبلا نظرية حكم علمانية يغازل أوروبا من جديد، مرة بالابتسام ومرة بالتهديد والوعيد بتحويل تركيا إلى نسخة جديدة من الدولة العثمانية!

لكن كانت هناك دائماً مشكلة كبرى تضع العصا في عجلة حلول الرئيس التركي وهي زعامة السعودية للعالم الإسلامي. وزعامة السعودية للعالم الإسلامي ومكانة قادتها الروحية والرمزية في وجدان أكثر من 1.5 بليون مسلم هي ما تفسر لنا هذه التصرفات غير الحكيمة التي تقوم بها النخبة الحاكمة في تركيا، ابتداءً بمعالجتها لقضية اغتيال جمال خاشقجي ومروراً بمحاولاتها الكثيرة لاستعداء الغرب على السعودية وليس انتهاءً بمزاحمة المملكة على معالجة الملفات العربية والإسلامية الشائكة.

أردوغان يظن أن نجاح مشروعه للالتحاق بأوروبا يمر عبر الاستيلاء على مكانة المملكة التاريخية والدينية والسياسية!

فهل من عاقل يدله على الطريق الصحيح للحل؟ هل من مصفّر للمشاكل مثل أحمد داود أوغلو يتصدى لإنقاذ تركيا؟
&