&محمد علي فرحات&

يتكل إيمانويل ماكرون على الزمن للتخلص من متظاهري «السترات الصفر» الذين يقلون عدداً أسبوعاً بعد آخر، وقد «تصيّدهم» أخيراً في قضية لا علاقة لها بمطالبهم التي يوجهونها للرئيس الفرنسي، ووجْهُ «التصيُّد» أن أحد المتظاهرين توجّه إلى الكاتب اليميني المتطرف آلان فينكلكروت الذي صادف مروره قرب أصحاب «السترات الصفر» بالقول: «أيها الصهيوني القذر». وتبحث الشرطة في صور التظاهرات عن القائل لتعتقله وتحيله على المحاكمة. ولم يكتف الرئيس بتضخيم هذه الجزئية من التظاهرة بل اعتبر مهاجمة الصهيونية شكلاً من أشكال العداء للسامية، مثلها مثل مهاجمة اليهود واليهودية. وبدأ العمل على استصدار قانون بهذا المعنى في وقت قريب. حدث هذا ويحدث مع اكتشاف تحطيم وتشويه مقبرة يهودية أو أكثر في فرنسا، ونداءات من إسرائيل تطلب من يهود ذلك البلد الأوروبي اللجوء إليها حيث «وطنهم الحقيقي».


يتلهى الرئيس ماكرون بالجزئيات، على رغم دلالتها، ويغض الطرف عن تفاقم مشكلة العلاقة بين الشعب والسلطة في مهد الديموقراطية وبلد الثورة من أجل الحرية والإخاء والمساواة، والشعلة التي أنارت العالم دفاعاً عن الإنسان وحريته قولاً وعملاً وتنقلاً، بما كان يدفع إلى دولة حديثة واقتصاد مزدهر وفكر إنساني يعتبر فرنسا مثالاً يُحتذى. هذا التلهّي بالجزئيات يتعدى فرنسا إلى الاتحاد الأوروبي كله، وإن بأشكال مختلفة بين هذا البلد وذاك.

وتظهّرت مشكلات الاتحاد الأوروبي نتيجة تحديات متلاحقة لم يستطع الاتحاد الاستجابة لها، على رغم الجهود الألمانية والفرنسية في هذا المجال. ويمكن هنا الإشارة إلى التحديات التالية: العجز عن استيعاب سياسي واقتصادي ملموس للبلدان الأوروبية التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفياتي السابق لكون عقلية حكام تلك البلدان تنتمي إلى أوروبا ما قبل الحرب العالمية الثانية، ولا تأخذ في الاعتبار متغيرات القارة داخلياً وتلك التي تحكم علاقتها بالعالم الذي يضم قوى ناهضة ومنافسة. ومن التحديات أيضاً الضغوط التي تأتي من تركيا أردوغان ومن روسيا بوتين ومن الانهيارات في المشرق العربي وشمال افريقيا التي تضخّ لاجئين بمئات الآلاف، يأتون حتى من داخل القارة السمراء ويعبرون المتوسط بطرائق غير شرعية حتى صار ذلك البحر مقبرة للآلاف منهم. وأحدث التحديات وربما أخطرها رئاسة دونالد ترامب التي حوّلت الولايات المتحدة من حليف يعين القارة العجوز إلى «غانغستر» يبتزها ويهزأ بالمؤسسات التي تربط بينها وبين واشنطن. نحن أمام أميركا ترامب المختلفة عن صورتها المعهودة بين عهدي جورج واشنطن وباراك أوباما. ولن تجد أوروبا في الأجواء الحالية ما يذكّرها بمشروع مارشال وبالجيش الذي ساند القارة في حربين عالميتين.

أوروبا تبحث عن صورتها وحضورها أمام شعوبها وشعوب العالم، ولا يبدو أنها تجيد البحث أو تعتبره أولوية، إذا استثنينا الحكّام في ألمانيا وبلجيكا وهولندا، وإلى حد ما في فرنسا. ولا يلتفت قادة أوروبا الحاليون إلى واجباتهم الحضارية تجاه العالم بالقدر الكافي، على رغم رمزية وجود مؤسسات الأمم المتحدة غير السياسية في جنيف السويسرية ومسؤوليات هذه المؤسسات التي تعم العالم كله. وإذا كان الاقتصاد في هذه المرحلة هو المدخل الرئيسي لتعيين المشكلات والاتجاه إلى حلها، يحسن أن نشير إلى كلام قاله قبل أيام المفوض الأوروبي للشؤون الاقتصادية بيار موسكوفيني الذي كان وزيراً في فرنسا بين عامي 2012 و2014. يقول إن أوروبا إلى الآن قوية لكن الفكرة الأوروبية في حد ذاتها مهددة. ويوضح أنه لا يجب فقط إنقاذ أوروبا بل إعادة ترتيبها بمنح معنى وقيمة جديدين للفكرة الأوروبية، خصوصاً مع ما يشهد الاتحاد في بروكسيل من انقسامات حادة. وأعطى مثالاً على ذلك الأزمة بين فرنسا وإيطاليا ومشكلة البريكزيت مع بريطانيا.

ربما تمر الانتخابات الأوروبية (في 26 أيار/مايو المقبل) بشكل عادي إجمالاً، لكنها ستحمل بالضرورة إشارات لا تخطئها عيون المراقبين، خصوصاً حين يدخل إلى البرلمان الجامع في بروكسيل نواب ينتمون إلى اليمين المتطرف، بما يعني تهديد الديموقراطية في مستوييها داخل كل دولة وفي مؤسسات الاتحاد. هنا سيستيقظ الضمير الأوروبي من سباته ساعياً إلى ابتكار افكار تمنع إلحاق أوروبا بأميركا ترامب أو بروسيا بوتين، والتركيز على كون أوروبا ضرورة لواشنطن وموسكو، وللدول الناهضة وغير الناهضة في عالم يشهد حروباً ذات أقنعة دينية وقومية، حيث الإنسان يفقد معناه بين حدّي القاتل والقتيل.

&