على سطح سوق السقطية، أحد أشهر أسواق حلب القديمة، يتنقل المهندس باسل الظاهر بحماس بين عمال بناء ينهمكون في ترميم الأجزاء المتضررة جراء المعارك التي عصفت بالمدينة طيلة سنوات ولم تنج منها أبرز المعالم الأثرية.


وشكّلت حلب (شمال) إحدى خطوط المواجهة الرئيسية بين القوات الحكومية وفصائل معارضة بين صيف عام 2012 حتى نهاية 2016، تاريخ استعادة دمشق بدعم روسي سيطرتها على كامل المدينة. وبعد مرور 8 سنوات على اندلاع النزاع، لا تزال المدينة القديمة والأحياء الشرقية التي كانت تحت سيطرة الفصائل ترزح تحت دمار كبير.

ويعدّ السقطية واحداً من بين 37 سوقاً تحيط بقلعة حلب الأثرية واستقطبت قبل اندلاع النزاع في العام 2011 آلاف التجار والسياح. ويمتد السوق على طول نحو 100 متر في المدينة القديمة التي أدرجتها "منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة" (يونسكو) على قائمتها للتراث المهدد بالخطر جراء الأضرار والدمار والنيران التي لحقت بها خلال الحرب.

ويجول الظاهر (42 سنة)، وهو واحد من ستة مهندسين يشرفون على عملية الترميم، بين عشرات العمال على سطح السوق القديم ويعاين عن قرب عملهم. ينهمك ثلاثة منهم في رفع ردم الأرضية وتوضيبها في أكياس بيضاء بينما يكاد ينتهي آخرون من كسو قبة بحجارة بنية صغيرة. وتميز القبب نصف الدائرية سقف السوق. وباتت ثلاث منها مطلية بالأبيض بينما لا تزال آثار الشظايا بادية على أخرى لم تصلها ورشة التأهيل بعد.

ويشرح لـ"فرانس برس" أن الهدف من الأشغال في الدرجة الأولى "ترميم السوق من آثار الحرب، وإزالة التشوّهات والتجاوزات" التي لحقت به جراء مخالفات بناء قديمة. ويتابع: "أما الهدف الكبير فهو إعادة التجار إلى محلاتهم" تمهيداً لاستئناف العمل فيها.

ولطالما اشتهرت حلب بأسواقها التجارية القديمة التي تعدّ من أقدم الأسواق في العالم، وتمتد من باب أنطاكية غربا حتى مدخل قلعة حلب شرقاً، على مساحة تفوق الـ160 ألف متر مربع تقريباً. وفي أيلول (سبتمبر) 2012، احترقت هذه الأسواق بسبب القصف، وهُدمت مئذنة الجامع الأموي القريب منها خلال المعارك. وتقدر منظمة "يونسكو" أن 60 في المئة من المدينة القديمة تضرر بشدّة، بينما تدمّر 30 في المئة منها بالكامل. ويبدو سوق السقطية أفضل حالاً من الأسواق الأخرى، إذ لا تتجاوز نسبة الدمار فيها 30 في المئة، وفق الظاهر.

ويقول الظاهر: "لا أعتبر نفسي جزءاً من مشروع تجاري بقدر ما أعتبر أنني أساهم في إعادة رسم التاريخ من خلال ترميم ملامح هذا السوق". ويضيف بفخر: "بالنسبة إليّ، إنه مشروع العمر".

ويطلّ سوق السقطية على قلعة حلب التي تعدّ نموذجاً مشهوراً للعمارة العسكرية الإسلامية في القرون الوسطى وتسبب تفجير صيف عام 2015 بتدمير جزء من السور المحيط بها. وتشهد حلب القديمة مشاريع إعادة تأهيل صغيرة مثل ترميم مديرية الآثار السورية لمتحف التقاليد الشعبية، فيما لا تزال الأحياء الشرقية على حالها منذ انتهاء المعارك. وتقتصر أعمال الترميم فيها على مبادرات فردية محدودة.

ويشير الباحث المتخصص في تاريخ حلب القديمة علاء السيد إلى أن بعض الدراسات تُظهر أن أسواق حلب القديمة يعود تاريخها "إلى 300 سنة قبل الميلاد، أي عمرها أكثر من ألفي عام". وعن إمكان إعادة بنائها، يقول السيّد وهو ابن حلب وأحد المشرفين على مشروع يهتمّ بتوثيق تاريخها، إن المدينة تعرضت لعدد كبير من الزلازل والغزوات على مرّ العصور هدّمت أسواقها، لكن "أعيد بناؤها في كل مرة". ويتحدّث السيد عن أهمية أسواق حلب كونها "أطول وأقدم أسواق مسقوفة في العالم" وهي تضمّ مئات الدكاكين والخانات والحمامات والمدارس والمساجد والفعاليات الاجتماعية.

ويقول ضياء العيسى (38 سنة) الذي يشرف على عملية إعادة تأهيل أحد أبواب السوق الضخمة، وهو من بين نحو 60 عاملاً يشاركون في الترميم، إن "عمليات الترميم اليوم لا تشبه تلك التي كانت تجري في الماضي أبداً". ويضيف: "كنّا نعالج قشرة الحجر جراء الزمن والرطوبة والهواء. أما اليوم، فنحن نعالج الحجر بسبب شظايا القذائف وآثار الحرائق ونعيد بناء قبب دُمّرت بالكامل".

ويبدو العيسى متفائلاً بإمكانية إعادة السوق إلى ما كان عليه قبل الحرب، لافتاً إلى أن عمليات الترميم ستجري "من دون التدخل في مراحله التاريخية وبأقل قدر ممكن من هدر الخشب والحجر". ويبدو زميله محمد باقية (47 سنة) واثقاً من أن "الحجر سيعود، لكن الأهم هو عودة أصحاب المحلات وعودة الحياة من خلال الناس التي تنعش السوق". ويقول: "مهما كان السوق جميلاً، لن يكون كذلك في حال كان خالياً من الناس".