&محمد علي فرحات&&

قول الرئيس الجزائري إن استقالته تهدف في ما تهدف إلى "تفادي ودرء المهاترات اللفظية" دليل إلى أن عبدالعزيز بوتفليقة ومشاركيه دخلوا في حال العداء مع رئيس الأركان قائد صالح ومن خلفه الجيش، بعدما اعتبروا وصفه لهم بـ"العصابة" إعلان عداء. ولا ينبغي التقليل من شأن هؤلاء لأن معظم النخب التي تداولت على الحكم في الجزائر تعتبر نفسها ذات حق لكونها استمراراً لقيادة الثورة الجزائرية التي حققت بالدم الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي.


وليست الجزائر مثل بريطانيا التي لم تبقِ ونستون تشرشل في "10 داوننغ ستريت" بعد انتصارها، بقيادته، في الحرب العالمية الثانية، وهي ليست مثل فرنسا التي أبعدت شارل ديغول قائد النضال ضد الاحتلال النازي، فما ان تحررت حتى أتت برؤساء غيره، وانتظر ديغول طويلاً حتى وصل إلى مقعد الرئاسة ولم يطل جلوسه على ذلك المقعد. الجزائر كانت تفتقد مؤسسات دولة، لذلك أسلمت قيادها لقادة الثورة وللعسكر، وها هي تنتفض على آخر هؤلاء، بوتفليقة، حتى تؤسس دولتها الحديثة بعيداً من حق "المناضلين" الذي صار ذريعة لجمود الحكم وأحياناً للفساد.

نجاح الحراك الجزائري السلمي يواجه الآن التحديات الصعبة بعد استقالة بوتفليقة، فالرجل المريض يعود إلى بيته تاركاً الجزائر تبدأ إنشاء دولتها، تقريباً، من الصفر. وأول التحديات مصير حزب جبهة التحرير المعرّض للتفكك أو للتحلل، إذ لا يتصور أعضاء هذا الحزب أنفسهم مثل أعضاء سائر الأحزاب، فهم "أهل الثورة" و "رعاة دولة الاستقلال" المكلفون قيادتها في المجالات كافة. سوف نسمع صراخاً، بل سوف نلاحظ تصرفات غير عقلانية من هؤلاء حين يجدون أنفسهم على قدر المساواة مع المواطنين الآخرين، ولن يطيقوا سماع مفردات سياسية تقوم على المطالب الاقتصادية والتنمية والحريات العامة والرقابة على أداء الوزارات. يريد الشعب الجزائري أن يكون حقاً مصدر السلطات والرقيب الدائم عليها، فلا أحد مفوّض بلا مساءلة ولا أحد فوق القانون، نعني القانون الجديد الذي يعم الجميع ولا يعترف باستثناءات.

استقال بوتفليقة كما لو أنه أقيل، بضغط الشارع لا بضغط الجيش الذي رفض قمع الشارع خوفاً من تهدّم الهيكل على رؤوس الجميع، ومثلما أدهش الجزائريون أنفسهم والعالم بتظاهراتهم السلمية سوف يجدون جواباً على السؤال الصعب، من يحكم بعد بوتفليقة؟ ليس الأمر بسيطاً، فهو علامة التغيير وبناء الدولة في معزل عن الثورة التي صارت جزءاً من التاريخ. هناك رغبات قد لا يمنعها الجيش بأن تتولى الحكم شخصيات سبق أن حكمت منذ رئاسة أحمد بن بلة إلى اليوم. لكن التحدي هو منع النخبة السياسية والعسكرية المجرّبة من التدخّل في تكوين دولة ما بعد الثورة، وأن تتولى الأمر نخبة مؤهلة، وإن غير مجرّبة، تركّز على الاقتصاد والحريات العامة في إطار القانون، وإخضاع القرار السياسي لمصالح الجزائريين، وأن تراعي هذه المصالح في علاقاتها الإقليمية والدولية.

وأولى الملاحظات التي تخطر في بال مراقبي الخارج هي التساؤل حول علاقة الجيش بالسلطة الجديدة، فهل يخضع لقراراتها أم يُخضعها لقراره؟ تلك ملاحظة أساسية، فقيادات الجيش من خلال مواقعها، لا من خلال شخصياتها بالضرورة، هي جزء من نخبة الثورة المطلوب طيّ صفحتها. لذلك يبدو مطلوباً منها أن تتفهّم ضرورات المرحلة وطبيعة المفترق السياسي التاريخي للجزائر، فإذا استمرت في نهجها المعهود والنظر إلى الجيش كقائد للسياسيين أو كمشارك أساسي لهم، على الأقل، فسوف يجد الجيش نفسه متورطاً في خصومة أو في عداء مع غالبية الشعب، وبالتالي يتدحرج الوضع إلى ما يشبه العشرية السوداء، أو على الأقل إلى ما يشبه التجربة المصرية التراجيدية في الصراع بين الجيش والإسلاميين على حكم شعب حائر بين الطرفين أو صامت مستسلم لأقداره المأسوية.

&