محمد علي فرحات&

"من يحكم اسطنبول يحكم تركيا" كلام متداول جسّده رجب طيب أردوغان الآتي من حواري المدينة إلى رئاسة بلديتها ثم إلى قمة الهرم السياسي في أنقرة التي حقق فيها نظاماً رئاسياً يجلس على كرسيّه طامحاً إلى أبعد من تركيا، ولكن، متعثراً بمشكلتَي القوميين الأكراد والقوميين الأتراك في آن. لكن رجلاً اسمه قدير طوباش سلّم رئاسة بلدية اسطنبول قبل أيام إلى الرئيس الجديد أكرم إمام أوغلو، وعلى وقع أحزان أردوغان لم ينتبه حتى المصوّرون الصحافيون إلى طوباش الذي بدا مثل شبح لمعلّمه أردوغان الذي يرغب في التعاون مع ظلال لا مع بشر من لحم ودم يمكنهم أن يسرقوا منه الصورة، وعبدالله غل المثال البارز على هؤلاء وليس الوحيد.


وحده رجب طيب أردوغان يصدّق الكلام حول "من يحكم اسطنبول يحكم تركيا" لذلك سيسخّر أجهزة الدولة التي فشلت في تأمين فوز حزبه برئاسة بلدية المدينة الكبرى، لتنجح هذه المرة في إعاقة إدارة أكرم إمام أوغلو للمدينة التي يسكنها 16 مليوناً وتصل دورة أموال بلديتها إلى أكثر من عشرين بليون دولار. وسينشغل الأتراك بدءاً من هذا الشهر على الأرجح بصراع رئيس البلدية ورئيس الدولة، ذلك أن أردوغان لا ينام على ثأر كأنه ابن قبيلة لا ابن مدينة، وكأنه القائد الآمر الوحيد لا الرئيس المسؤول عن شعب متعدد الاتجاهات.

يحجب أردوغان عن الأتراك ويكاد يحجب عن نفسه الحقيقة التي خرجت من القمقم ليتداولها الناس حول السبب الرئيسي لصعود أردوغان وحزبه في تركيا الذي كان نقطة الانطلاق لصعود الحركات "الإخوانية" في العالمين العربي والإسلامي. ما حدث هو تصعيد لا صعود، فالدوائر العليا في الولايات المتحدة ومعظم أوروبا الغربية قررت دعم "الإخوان" وكان أردوغان وحزبه أبرز المستفيدين وصولاً إلى قمة الحكم في تركيا. وتجلى الدعم، فضلاً عن عضوية الـ "ناتو" القديمة، بعلاقات اقتصادية متنامية، خصوصاً مع أوروبا، اندفع فيها الاقتصاد التركي إلى مستويات غير مسبوقة. وتميّز سلوك أردوغان في فترة التصعيد تلك بالذكاء والواقعية، فحافظ على علاقة بلاده بإسرائيل على رغم كلام متطرفٍ ضدها في المناسبات المُحرجة لا ينتقل إلى الفعل، والأمر نفسه مع أوروبا الشريكة في الاقتصاد المتنامي وفي الـ "ناتو"، كلام صاخب حول عضوية الاتحاد الأوروبي سرعان ما يهدأ بعد تسويقه في الداخل التركي.

لم يكن أردوغان سطحياً مثل الرئيس المصري المعزول محمد مرسي، لذلك استطاع التكيُّف مع الموقف الجديد للغرب الذي أوقف التعاطف مع "الإخوان" وامتنع عن دعمهم سياسياً واقتصادياً وأمنياً كما كان يفعل، وها هو على عتبة إهمالهم نتيجة اكتشافه أنهم في أساس الإسلام السياسي الذي يستغل إيمان المسلمين لمصلحة حزب مسيّس ومسلّح، يصل به الأمر في أحيان كثيرة إلى تنفيذ عمليات الاغتيال والتفجير التي صارت مفضوحة في البلاد العربية والإسلامية كما في عيون المراقبين السياسيين في الدول الكبرى.

ولعل ذكاء أردوغان يكمن في مزج النقائض حين يجمع بين القومية التركية الضيقة والإسلام السياسي العابر الأوطان، ونقرأ ذلك في قمعه الأحزاب الكردية، فلا يفرّق بين معتدل منها أو متطرّف، وحين نراه يتعاون مع النظام الإيراني وروسيا مبقياً على عضويته في الـ "ناتو" الذي يُفترض أنه عدو لطهران ومنافس حاد لموسكو. لكن الذكاء لا ينفع الحاكم حين يفقد مبرر وجوده السياسي. لقد انتهى دعم واشنطن وأوروبا لـ "الإخوان" وقد يصل الأمر إلى العداء. من هنا مأزق أردوغان وحزبه الذي لا تحلّه العلاقة مع القوميين الأتراك المتطرفين ولا الشعار الذي يرفعونه جميعاً ضد الأكراد "الإرهابيين" الوحيدين، في نظر أردوغان وحزبه وحلفائه.

سياسة "الإخوان" الأتراك الآن في مرحلة الحيرة والإحساس بالنهاية. لكن الحل الوحيد لمشكلتهم هو التواضع والقبول بالشراكة الإنسانية والوطنية مع سائر القوى السياسية في تركيا، وبالتنافس الديموقراطي القائم على الاعتراف المتبادل. هذا الحل يقتضي اعتزال أردوغان لأن إحساسه "السلطاني" المتضخم يعيق عبور تركيا مرحلة القلق وانتقالها إلى الاستقرار... وها هو عبدالله غُل ينتظر.