&محمد السعيدي

شهدت الأشهر الثلاثة الماضية حراكا كبيرا في مصر حول مطالبة عدد من أعضاء البرلمان المصري تدعمهم أقلام وأصوات كثيرة جدا علمانية وليبرالية وقومية ويسارية، طالبوا كلهم بتعديل الدستور المصري، وذلك بإضافة وصف مدنية للدولة المصرية.

ووقف نواب حزب النور أمام هذا التوجه الجارف بغية الوصول إلى إقناع غالبية البرلمان بعدم جدوى هذه المادة وضررها على المستقبل الثقافي والحضاري للدولة المصرية، في ظل موجة العولمة التي تتبنى تحريكها في الشرق الأوسط دول عظمى، على رأسها الولايات المتحدة، بكل ما تملكه من قدرات إعلامية وسياسية وتأثير ثقافي.

وجهة نظر نواب حزب النور أن كلمة مدنية قد خرجت منذ ثلاثمئة عام من معناها اللغوي إلى دلالتها الاصطلاحية، وأصبحت تعني في معاجم المصطلحات الثقافية والسياسية، الدولة المتحررة من قيود الدين والتزاماته والانتماء إليه، ويرى نواب الحزب -حسب ما فهمته في متابعتي للسجال آنذاك- أن إدراج هذا المصطلح في الدستور سيؤدي لاحقا إلى تفسير الدولة المصرية بأنها دولة علمانية، مما يعني أن أحكام الله تعالى لن تعود لتراعى عند فرض الأنظمة والتصويت عليها كما هو الحال اليوم في تونس وفي تركيا، فقد فرض في تركيا حتى بعد تولي حزب العدالة والتنمية عدد من الأنظمة المحادة للشريعة، كتشريع عدم تجريم الزنا، وفرض في تونس تزويج المسلمة بغير المسلم، إلى غير ذلك من الأمثلة الشنيعة.

ويرى النواب أن وصف المدنية بهذا الاعتبار مناقض لإسلامية الدولة ومصدرية الشريعة للأحكام اللتين ينص عليهما الدستور، كما أن مصر بلاد العلم والعلماء والتراث الديني العريض لا ينبغي أبدا أن تكون كذلك معزولة دستوريا عن جذورها الحضارية الثقافية القِيَمِيَّة.

حقاً لم يفلح حراك هؤلاء النواب في إقناع البرلمان بالتصويت برفض التعديل، لكنه أفلح في إشاعة وعي برلماني وشعبي بخطورة هذه الإضافة، الأمر الذي حمل رئيس البرلمان الدكتور علي عبدالعال -وفقه الله- وهو فقيه دستوري مكين على اقتراح التصويت على ما أسماه هو لاءات ثلاث تُفَسِّر المراد في الدستور من مصطلح الدولة المدنية:

لا للدولة العلمانية.

لا للدولة البوليسية.

لا للدولة الدينية.

وأوفى رئيس المجلس بما وعد به وعرض هذه اللاءات للتصويت، فكان نصيبها الإجماع على هذا التفسير للدولة المدنية.

والجميل أن نص القرار الذي تم التصويت عليه في شرح المراد بالدولة الدينية المنفية في تفسير المدنية بأنها الثيوقراطية بالمفهوم الغربي الذي يعني الحق الإلهي.

وهنا أحب التنويه إلى ثلاث قضايا:

أولها: أن هذا إنجاز بكل ما تعنيه الكلمة، وليست المحظوظة فيه مصر وحدها، بل الثقافة الإسلامية المعاصرة جمعاء، وذلك أن مصطلح المدنية تم اختطافه لصالح الفكر العلماني من زمن بعيد من عهد مونتسيكيو وأضرابه من رواد الفكر السياسي الغربي حتى تُرجِم إلى العربية بهذه الصيغة إلى يومنا هذا، وأصبحت هذه الكلمة في جميع التنظيرات السياسية تعني العلمانية، ولم يُخالف في ذلك سوى من يُعْرَفُون حالياً بالليبروإسلاميين، حيث زعموا أن هذا المصطلح لا يعني العلمانية بالضرورة، لكنهم عمليا لم يستطيعوا التخلص من العلمانية، بل وقعوا فيها نتيجة عدم تحرير المصطلح وجنوحِهم إلى الميوعة في تقرير الحقائق الشرعية المتعلقة بالسياسة، فالقرضاوي مثلا قال: «الحرية قبل تطبيق الشريعة»، وهذا يعني جَعْله الشريعة خيارا شعبيا وليست فرضا إلهيا، وأصرح منه راشد الغنوشي الذي دعته المشاركة السياسية إلى القول بأن العلمانية من الإسلام، الخلاصة أن الموصوفين بالليبروإسلاميين أو في بعض الأدبيات، التنويريين الإسلاميين، سقطوا بسبب عدم تحرير المصطلح في العلمانية، منهم من أقر بذلك ومنهم من لم يقر.

تدوين ما أصبح يطلق عليه باللاءات الثلاث في المضابط الدستورية، يُعَد أول تفسير رسمي برلماني دستوري للمدنية يخالف التفسير العلماني، ويُعيد المصطلح إلى حظيرته اللغوية الصحيحة، ولذلك أجد لزاما على الباحثين في الفكر السياسي الإسلامي الحديث الالتفات إلى هذا التفسير وإشاعته ونشره، فهو نصر مصطلحي كبير لا يعرف قدره إلا من خاض حرب المصطلحات وعرف خطورتها.

كما أهيب بالبرلمانيين المصريين عموما أن يقوموا على حراسة ما أجمعوا عليه في تفسير هذا المصطلح، وألا يسمحوا حاليا أو لاحقا لأي يد أن تمتد إليه وتسعى إلى تغييره بطريقة أو بأخرى، كما أتمنى على الفقهاء الدستوريين المصريين البيان الشافي لمقتضى هذا التفسير الرسمي وما سوف يعنيه عند أي خلاف على دستورية حكم من الأحكام أو نظام من الأنظمة.

ثانيا: هذا الإنجاز وإن كان يُشكر عليه بالغ الشكر رئيس مجلس النواب المصري وسائر أعضاء مجلس النواب الذين أجمعوا عليه، بمن فيهم النواب النصارى، إلا أن حزب النور يعد المحرك له والباعث عليه، ويُعَد في نظري تتويجا للإثباتات العديدة من حزب النور والتي تؤكد صحة سياسته وسلامة اختياره حين وقف مع خارطة الطريق، فقد أراد الحزب تطبيق القواعد الشرعية من كون درء المفاسد مقدما على جلب المصالح، والأخذ بأخف الضررين وأقرب المصلحتين وأهون المفسدتين، فنجح في ذلك، وما تجنيب الدستور المصري التفسيرات العلمانية إلا آخر إنجازاته، ونسأل الله ألا يكون آخرها، وقد سبقه -ولله الحمد- عدد من الإنجازات التي أعرفها جيدا بحكم متابعتي، وأعتقد أن الحزب يُحْجِم عن نشرها إعلاميا لمعانٍ مقاصدية والله أعلم، ولو أن بعض ما أنجزه الحزب تحقق على يد أي جماعة إسلامية غير حزب النور لوجدت الإشادة به ملء السمع والبصر، لكن الصراعات الحزبية والولاءات لغير المصلحة الحقيقية تمنع من الإشادة بمثل هذا الإنجاز، لا لشيء إلا لكونه من حزب النور، وقد رأينا أثناء انتخابات مجلس النواب المصري كيف أن أقلام الإخوان المسلمين وقنواتهم كانت تقف مع العلمانيين واليساريين في مصر في الحرب الانتخابية على مرشحي حزب النور، وكأنهم يقولون: انتخبوا اليساريين والعلمانيين ولا تنتخبوا مرشحي حزب النور، وهكذا تكون الموازين المقلوبة حينما لا يكون العدل هو المطلوب، ومن توفيق الله لهذا الحزب أنه حصل في الانتخابات على مجموع أصوات يقارب ما حصل عليه في الانتخابات التي قبلها رغم تباين الظروف، ولولا قانون القوائم المطلقة الذي تم وضعه في هذه الانتخابات لكان يشكل كتلة عريضة من مجلس النواب، وليس ذلك إلا لما لمسه المواطن المصري في هؤلاء المرشحين من إخلاص وعدل، نسأل الله لهم مزيدا من التوفيق.

ثالثا: نتائج هذا التفسير ليس من الضروري أن تكون آنية، فلا ينبغي أن يقع الأبناء والإخوة في مصر في مغاب العجلة على تحصيل المكاسب، كما أن هذه المكاسب ليست لصالح شريحة أو حزب، بل ينبغي أن تكون لصالح الشعب المصري كله، فتفسير الدولة المدنية وفق اللاءات الثلاث هو أن مصر دولة متحضرة متمدنة، والتحضر والتمدن يقتضيان الائتلاف والتواد والسعي المشترك إلى النهضة العلمية والحضارية في دولة ترفع الإسلام دينا والشريعة الإسلامية مصدرا لقوانينها.