&محمد صابرين

&اختارت مصر أن تصمت، ولاذت بالغموض الإستراتيجى فى كثير من المواقف تجاه بعض القضايا من عينة صفقة القرن، والتحالف الشرق أوسطى أو الناتو العربي، والذى غابت عن آخر اجتماعاته، وكعادة السياسة الخارجية لمصر فى العهد الجديد فإنها لم تثرثر كثيرا، ولم تتخل عن تحفظها ورصانتها الرسمية فى الخلاف مع الشركاء بل وحتى مع خصومها، ولم تخرج عن أسلوبها الهادئ حتى وهى تتلقى مدحا شعبويا هى بحاجة له من تيارات صاخبة ومؤثرة فى دغدغة عواطف الجماهير، أو كتابات مثل ما ذهب نحوه عبد البارى عطوان، فى مقال رأى الجمعة الماضي، بتأكيده أن: انسِحاب مصر من الناتو العربيّ إذا تأكّد قرار إستراتيجيّ جريء «..» ولا نستبعِد أن تظل عُضويّته مقتصرة على السعوديّة والبحرين، وربّما الإمارات أيضًا. إلا أن مصر تثبت مرة أخرى أنها تملك قرارها، وإن اختارت أن تساير أو تجامل، ولكن ليس على حساب مصالحها العليا، أو ما تراه أنه يهدد الأمن القومى العربي. وليس سرا أن القاهرة ترفض تبادل الأراضى أو التنازل عن حبة رمل واحدة من سيناء، وهى تفضل التنسيق العربى والتحالفات العربية، ولا تحبذ التحالفات الأجنبية، ولو اضطرت فإنها تركز على الدخول فى شكل محدود من التحالفات الدولية فى إطار جماعى وبما لا يؤثر على أولوياتها وسياساتها بالمنطقة، وحتى لو قررت الانسحاب من الناتو العربي، فلن تكون بعيدة عما يدور فى اجتماعاته أو ما يجرى فى مطابخه بحكم مركزيتها فى المنطقة وسياستها المتوازنة وترتيب أولوياتها، ولن تحدث أزمة مع واشنطن، نظرا لوجود ملفات كثيرة متشابكة بين مصر وأمريكا لاسيما فى التنسيق الأمني، ويجب ألا ننسى أن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب وصف علاقات بلاده مع مصر بأنها علاقات جيدة.

رجل باع كل ممتلكاته للمتاجرة بالعملة الأجنبية بالرغم من عدم موافقة زوجته

&.. ورغم كل ما سبق فمن الواضح أن موقف القاهرة يمثل انتكاسة لجهود الإدارة الأمريكية، ومجمل إستراتيجيتها فى المنطقة. وقد وصفت مجلة «slat» الأمريكية انسحاب مصر من التحالف المناوئ لإيران، بزعامة الولايات المتحدة، والمعروف باسم الناتو العربى إنما يعكس أفول مخططات، دونالد ترامب الطويلة المدى للشرق الأوسط.، نظرا لأن انسحاب الجيش المصري، الأكبر فى العالم العربي، يمثل فشلا ذريعا للتحالف قبيل تشكيله..

.. ومن الواضح أن مصر، تواجه مشكلة مع مفهوم ترامب للناتو العربى تتمثل في: الغموض المحيط بما إذا كان ترامب سيفوز بولاية ثانية، واحتمال أن يتخلى من يخلفه عن المبادرة، فضلا عن الخلافات القائمة بين دول الناتو العربي، مثل «الكويت والبحرين وقطر وعمان والأردن والإمارات العربية المتحدة ومصر والسعودية»، ورغم أن «مصر» منافس تقليدى لطهران، فى السيادة على المنطقة، لكن إيران لا تمثل تهديدًا مباشرًا للجانب المصري، ومن ثم لا تميل القاهرة إلى تصعيد الصراع مع إيران.

ومن البداية رأت القاهرة أن الأزمة الخليجية العقبة الكبرى لتحقيق التحالف، وذلك من بين أسباب أخرى جوهرية وأخرى صغيرة، وقد أثبتت الأحداث صحة وجهة نظر مصر فى ظل ثبات دول المقاطعة الأربع مصر والإمارات والبحرين والسعودية على مواقفها ضد قطر. وتتهم دول المقاطعة الدوحة بدعم الإرهاب، وفى المقابل أكد وزير خارجية قطر، محمد بن عبد الرحمن أن التحالف الشرق أوسطي، محكوم عليه بالفشل ما لم تحل الأزمة فى الخليج العربي.

وفى الوقت نفسه لا تخفى القاهرة تبرمها من ارتباك السياسة الخارجية الأمريكية وسعيها للتحالف مع أطراف كثيرة متناقضة المصالح، وتوهمها أن هذه الدول المتنافرة يمكن أن تجتمع على عداء إيران، ولكن هذا فيما يبدو صعب التحقق، كما أن مصر، كقوة كبرى فى المنطقة، اختارت صيغة التوازن فى السياسة الدولية فى مجمل علاقاتها مع الدول والقوى المختلفة، وستذهب مع دول عربية أخرى مؤثرة مثلها لتبنى سياسات تضمن مصلحة الأمن القومى العربى دون تعريضه للمزيد من التهديدات..

ولعل الخلاف الرئيسى ما بين القاهرة وواشنطن يتعلق بالرؤية الإستراتيجية لحقيقة جوهر الصراع فى المنطقة، فالقاهرة ترى المشكلة الفلسطينية هى «أم المشاكل» وأخطر تحد إستراتيجى تتفجر منه كل تحديات المنطقة ومن أخطرها التطرف والإرهاب، وهو ما يفجر الأوضاع ويفسح الأرض للفوضى الخلاقة ويهدد الدولة الوطنية العربية، ويحول دون استقرارها وتفرغها للتنمية، بل حتى المسألة الإيرانية هى فى بعض جوانبها أحد تجليات الصراع العربي- الإسرائيلي، ولا تشعر القاهرة بوجاهة الرؤية الإستراتيجية التى تختصر كل شيء فى المنطقة فى صورة «البعبع الإيراني». ويرى خبير العلاقات الدولية طارق فهمى أن الكلام يدور كلية بهذا التحالف على إيران وأنها الخطر الرئيسي، واللقاءات السابقة التمهيدية - بحسب ما أعلن عنه - لم تقدم رؤى أو برامج إستراتيجية. ويخلص فهمى بقوله: بناء عليه فإن مصر لم تدخل فى التحالف رسميا لأنه لم يعلن رسميا، ومشاركتها فى لقاء، وانسحابها بعدم حضور لقاء آخر، قد يفهم منه أن لها تحفظات أو لا يروق لها أهداف مثل اعتبار إيران العدو الرئيسى فى المنطقة.

ويبقى أن القاهرة اختارت دوما التمسك بالثوابت المصرية، وهى رفض التحالفات الأجنبية والاحتماء دوما بالحضن العربي، وفى اللحظة الراهنة فإن مصر تتمسك بتراثها وقناعاتها دون ضجيج، سواء فى رفض العدوان على سوريا أو تقسيمها، ورفض منح أى أحد قواعد عسكرية على أراضيها، والحرص على إرسال رسائل واضحة من قاعدة محمد نجيب العسكرية القريبة من الحدود مع ليبيا، وتقديم العون لإخوتها فى السودان والجزائر، واحترام اختيارات الشعوب، وعدم التدخل فى أمور الآخرين. ولكن النصيحة حاضرة دوما.