&محمد كركوتي

"بريطانيا لا تستطيع الاستمرار في تعطيل خروجها من الاتحاد الأوروبي".
جان كلود يونكر رئيس المفوضية الأوروبية

بريطانيا مرتاحة قليلا هذه الأيام من قضية انسحابها من الاتحاد الأوروبي "بريكست"، ليس بسبب انتهاء هذه المسألة "التي يبدو أنها لن تنتهي" بل لأن البرلمان في عطلته الموسمية، فضلا عن أن نسبة كبيرة من البريطانيين اعتادوا على مغادرة البلاد في هذه العطلة. والأبرز هنا حقا أن الأحزاب البريطانية تحضر نفسها لانتخابات البرلمان الأوروبي، إذا ما تم تأجيل آخر لخروج المملكة المتحدة. فعلى هذه الأخيرة أن تدخل الانتخابات حتى لو مددت ليوم واحد بعدها، وعليها بالطبع أن تقوم بالتزاماتها كدولة كاملة العضوية في هذا الاتحاد، وأن تسهم أيضا في الميزانية العامة لهذا الكيان الأوروبي. أي تمديد يعني: الإبقاء على الإجراءات الطبيعية العادية في هذا المجال، بصرف النظر عن أي اعتبارات أخرى.


لنترك المعارك الداخلية حول "بريكست" في بريطانيا جانبا. فهي مستمرة حتى في عز العطلة الموسمية للبرلمان. فهي مستمرة على الأقل في وسائل الإعلام، وفي حملات الأحزاب للانتخابات الأوروبية المشار إليها. النقطة المطروحة بقوة الآن هي تلك المتعلقة بمستقبل دور بريطانيا في التجارة العالمية بعد خروجها من الاتحاد. وهذه قضية معقدة جدا، على الرغم من أن ليم فوكس وزير التجارة وهو من أنصار "بريكست" لا يرى فيها شيئا صعبا! ورغم أن هذا الأخير جال عددا من العواصم الكبرى وبحث هذه المسألة، إلا أنه لم يعد بشيء يذكر. فكل هذه العواصم دون استثناء شددت على أن يكون خروج بريطانيا من الاتحاد منظما، وأن تكون هناك علاقات تجارية طبيعية بين لندن وبقية عواصم أوروبا.
المشكلة هنا تكمن في الإرباك داخل حكومة تريزا ماي التي لا تحكم عمليا مسار الخروج، كما أنها لا تصنع القرارات الحاسمة بهذا الشأن. فهي أولا: لا تستطيع أن تعقد اتفاقات تجارية مع أي دولة، طالما أنها لا تزال عضوا في الاتحاد الأوروبي، كما أن هناك مصيبة ضمن هذا النطاق تتعلق، وهي على شكل السؤال التالي: هل يجب أن تأخذ اتفاقات التجارة ما بعد "بريكست" أولوية أكبر من أولوية اتفاق تجاري مع الاتحاد الأوروبي نفسه؟ بالطبع "عصابة بريكست" في الحكومة والبرلمان البريطاني ترى أن من الأفضل أن تكون الأولوية لغير الأوروبيين، الأمر الذي يصطدم بـ"عصابة البقاء" الذين يهددون بترك الحكومة إذا لم تعقد اتفاقا تجاريا شاملا مع شركائها الأوروبيين. والأهم أن هذا الاتفاق مع أوروبا سيحل تلقائيا عقدة إيرلندا، التي تمثل العقبة الأبرز على الساحة البريطانية - الأوروبية.
بالطبع يرفض الأوروبيون التعامل مع المملكة المتحدة تجاريا بصورة متكاملة، إذا ما عقدت اتفاقات مماثلة خارج نطاق الاتحاد. وهذا أمر مفروغ منه. فلا يمكن أن تحصل بريطانيا على استثناء تجاري بهذا الخصوص، فإما أن تكون ضمن الكيان التجاري الأوروبي، أو خارجه وسيتم التعامل معها كدولة ثالثة. أما بشأن أزمة إيرلندا، فسوف يضع الاتحاد حدوده ما بعد إيرلندا الشمالية، أي إنه سيقسم المملكة المتحدة بالفعل، وهو أمر ليس بإمكان أحد من السياسيين البريطانيين القبول به، خصوصا أن الخروج نفسه دفع الأغلبية في اسكوتلندا كي تنادي بالانفصال، متحججة بأن هذا الإقليم صوت لمصلحة البقاء في الاتحاد الأوروبي أصلا. وهذا سيوجد بلا شك مصيبة تاريخية لم تكن بالحسبان.


يطيب لأنصار "بريكست" القول في كل المناسبات إن الأمور يمكن أن تحل ببساطة بمجرد انضمام بريطانيا إلى منظمة التجارة العالمية، واتباع الأسس التي تفرضها هذه المنظمة، كغيرها من الدول الأخرى التي تعمل بها. لكن هناك مشكلة كبيرة في هذا الطرح. فالمملكة المتحدة يجمعها أكثر من 40 اتفاقية مع دول العالم بحكم عضويتها الطبيعية في الاتحاد الأوروبي وعليها أن تطلق مفاوضات مع هذه الدول، في حال اختارت العمل وفق "منظمة التجارة". وهذه المفاوضات ليست مضمونة النتائج، لأن الطرف الأوروبي رئيس فيها. وعلى هذا الأساس، يمكن فهم تحفظات دول كبرى مثل اليابان وكندا، بأنه لا بد من اتفاق تجاري أوروبي - بريطاني واضح أولا، وإلا ستكون هناك مفاوضات معقدة مع لندن.
أما على صعيد الولايات المتحدة، فعلى الرغم من ترحيب الرئيس دونالد ترمب بخطوات الانفصال البريطانية عن أوروبا، إلا أن الكونجرس الأمريكي دخل على الخط أخيرا، وأعلن أنه لن يصادق على أي اتفاقية ثنائية بمزايا خاصة مع بريطانيا. والواقع هذا موقف الإدارة الأمريكية السابقة، التي أعلنت أن اتفاقا تجاريا مع لندن سيكون في آخر اهتماماتها. من هنا، لابد من تأكيد أن مهمة المفاوضين التجاريين البريطانيين قد تكون مستحيلة مع بعض الأطراف الدولية، وقد تعيد المسألة إلى مراحلها الأولى من جديد. إنها فوضى حقيقية تعيشها بريطانيا السياسية والاقتصادية، وتزداد هذه الفوضى، مع الخلافات الدائرة ضمن الحزب الحاكم، بل ضمن الحكومة نفسها. خلافات من تلك التي تهدد بالفعل بانفراط عقد الحكومة وحتى الحزب.

&