&زياد الدريس&

تَداول معلقون ومغردون كُثُر سؤالاً ساخراً عن تأخر وصول "الربيع العربي" إلى السودان؟! وجعلوا السؤال باباً للتندّر والاستهزاء و"الطقطقة" التي أدمنها العرب في السنوات الثلاث الأخيرة على بعضهم البعض بشكل تجاوز زرع الابتسامة إلى زرع الأحقاد. فبعد أن كان العرب يتألمون من "طَّقّ" أعدائهم لهم، أصبحوا أيضاً يتألمون من "طقطقة" أصدقائهم عليهم!

لن أجيب عن سؤال :لماذا تأخر السودانيون؟: سياسياً، فظاهرة "الربيع العربي" كلها مليئة بأسئلة ممتنعة عن الجواب... على الأقل حتى اليوم.

أما اجتماعياً، فالسؤال هو عن وجاهة طرح السؤال أعلاه، في ظل معرفتنا التاريخية غير المتأرجحة بأن الشعب السوداني ظل دوماً، من بين الشعوب العربية، مستقلاً في صفاته وخصائصه، ونسيج وحده دوناً عن العرب الآخرين.

لم يقتصر التفرّد عند السودانيين في الرِّتم الخاص لهم عند ترتيلهم القرآن الكريم أو في تشابه خَطّهم اليدوي المتميز أو حتى في تمايز سلّمهم الموسيقي عن سائر العرب. فقد تعرفت في حياتي على سودانيين من مختلف الطبقات والمهنيات: ديبلوماسيين وأساتذة جامعيين ومثقفين وموظفين وعمّالاً ورعاة غنم وإبل، كباراً وصغاراً، أثرياء وفقراء، لكنهم كانوا كلهم يتّصفون بدرجة عجيبة من التماثل في قيم: الكرامة والأمانة والصدق والتواضع. كم قابلتم في حياتكم سودانياً متذلّلاً متزلّفاً، كما يفعل بعض العرب؟! وكم عدد الذين عملتم معهم من السودانيين فكذبوا عليكم أو خانوكم في أمانة الأعمال والمال، كما فعلتم أو فُعل بكم مراراً من عرب آخرين؟! وهل واجهتم في حياتكم سودانياً متكبّراً متغطرساً مهما علا منصبه، مثلما ترون في الأقربين؟!

أفتستكثرون على شعبٍ استطاع أن يتفرد بخصائصه الأخلاقية هذه، وأن يتماسك حتى الآن عن السقوط في وحل الطِّباع السائدة في الوطن العربي، أتستكثرون عليه أن يستقلّ في توقيت غضبه وتحرّكه؟! ليس هذا فحسب، بل وسترون أن أعراض تَحرُّك السودانيين ونزولهم للشارع ستكون هي الأقل تخريباً من لدن الناس والأقل عنفاً من لدن الجيش من بين الدول السبع التي "أصيبت" بـ الربيع العربي. ليس هذا لأن السودانيين هم الأقل غضباً، ولكن لأنهم، بسبب نزاهتهم، الأصعب اختراقاً من لدن المرتزقة الذين يأكلون الوطن باسم الوطنية.

وحيث ظل حجم (الطبقة الوسطى) في المجتمع، مقارنة بالطبقة العليا والطبقة الدنيا، أحد أهم مقاييس استقرار المجتمعات، وعلى رغم أني لا أتوافر على إحصاءات دقيقة، إلا أني أملك انطباعاً شبه يقيني بأن الطبقة الوسطى في المجتمع السوداني ما زالت هي الأعرض والأكثر تماسكاً من بين مثيلاتها لدى الشعوب العربية الأخرى. هذه الطبقة المستقرة هي التي تقود الحراك في السودان الآن. ووفق خصائصها المعهودة فهي لا تنطلق في تحركاتها من ردود فعل غوغاء أو من تشفّي طبقات مسحوقة غاضبة، بل من هدوء وتروٍّ يدرك المسؤولية الاجتماعية المناطة به من لدن بقية طبقات المجتمع.

السودانيون ليسوا ملائكة، ففيهم قطعاً الكاذب والسارق والمرتزق، لكن نسبة انتشار هذه الأوبئة الاجتماعية تقلّ عندهم بكثير عن نسبة انتشارها في الدول العربية الأخرى، ما يجعل السودان وأهلها أرضاً خصبة لتقديم جمهورية عربية نموذجية وسط جمهوريات "الفوز" العربية!

&