& علي العميم

&

في العدد السادس من مجلة «العالم العربي»، الصادر بتاريخ 1 سبتمبر (أيلول) عام 1947، الذي حمل غلافه صورة الملك عبد العزيز آل سعود - وهو العدد الثاني الذي حمل غلافه صورة ملك عربي - نلقى في أول صفحة منه كلمة توضيحية، هذا هو نصها: «انتهزت مجلة (العالم العربي) فرصة عيد الفطر المبارك، فتوجهت في هذه المناسبة السعيدة بأسمى آيات الولاء والإخلاص لحضرات أصحاب الجلالة والفخامة ملوك العرب ورؤسائهم وأقطاب المشتغلين في القضية العربية، فتلقت الردود التي نتشرف بنشرها، فيما يلي...».
الردود التي تلقتها المجلة، حسب ترتيبها لنشرها بطريقة عامودية، تلقتها من ملك مصر، الملك فاروق، وكان الرد باسم كبير الأمناء، ومن ملك السعودية، الملك عبد العزيز آل سعود، وكان الرد باسمه، ومن ملك الأردن، الملك عبد الله بن الحسين، وكان الرد باسمه، ومن ملك العراق، فيصل بن الحسين، وكان الرد باسم التشريفات الملكية، ومن مفتي فلسطين الشيخ محمد أمين الحسيني، وكان الرد باسمه.
حسب ترتيب المجلة العامودي لإيراد ردودهم على تهنئتهم بعيد الفطر، نلحظ أن الملك عبد العزيز كان يحتل لدى المجلة في الأهمية المكانة الثانية بعد ملك المصريين، الملك فاروق. ولأنه يحتل هذه المكانة عند هذه المجلة، ولأن العلاقات المصرية السعودية شهدت تحسناً كبيراً، ابتداءً من عام 1945، فلقد اختارت أن يكون الملك عبد العزيز ثاني ملك عربي يحمل غلافها صورته، فكتبت باسم «مدونة صحافي» كلمة التحرير موضوعاً في صفحتين عنوانه «وجه عربي صميم في القاهرة»، استرجع فيه هذا الصحافي - الذي هو على الأغلب رئيس التحرير الجديد، محمود العزب موسى - ذكرياته وانطباعاته عن زيارة الملك عبد العزيز إلى مصر في شهر يناير (كانون الثاني) عام 1946، التي عاينها وتابعها عن كثب من موقعه، صحافياً وكاتباً سياسياً في جريدة «الأهرام».
إن ما أشرت إليه تنطق به سطور فاتحة ذلك الموضوع، التي تقول: «يا لها من أيام خالدات. الأعلام السعودية وأعلام مصر تنتشر في الهواء. يداعبها النسيم في رقة. منشورة بين السويس والقاهرة، وبين القاهرة والإسكندرية. وترفرف في كل مكان في العاصمتين. وفي كل بلد مصري. وأقواس النصر ترتفع في كل مكان. ذلك أن عاهل الجزيرة يخرج من عرينه لأول مرة، ليزور أخاه الفاروق...
والأفراد يخرجون من دورهم - على اختلاف الملة والنحلة والمذاهب - بأعمارهم المتباينة، ليروا ملكين وضع العرب جميع آمالهم فيهما...
عبد العزيز الشيخ الوقور، وفاروق المتوثب جنباً إلى جنب في سيارة واحدة، يردان على تحيات الشعب، وكانت تحيات صادقات تخرج من أعماق القلب، ثم تندفع إلى العيون، وقسمات الوجوه، وإلى الحناجر، وإلى الأكف فتدوَّي بالهتاف والتصفيق».
وكل ما قاله الكاتب في ذكرياته وانطباعاته عن زيارة الملك عبد العزيز إلى مصر، سواء في وصف أحداثها، ووصف الاحتفاء الرسمي والشعبي الكبير به، أو في وصف صفاته الجسمانية وصفاته الشخصية، أو في تسجيل المظاهر التي شدته وتحمس لها في برنامج زيارته، أو في ثنائه على سجاياه وعلى تاريخه الشخصي وعلى إنجازاته، كان دقيقاً وصحيحاً، وكان حقاً وصواباً، ولم يكن فيما قاله تزيداً ولا مبالغة.
هذا الموضوع، أو هذا المقال (وجه عربي في صميم القاهرة)، كما لخصته يدحض تصوير شريف يونس له، بأنه قائم على مدح مجاني «لملوك العرب ملكاً ملكاً بالتتابع، كما لو كانوا رموز العروبة»!
ولأطلعكم على قدر عدم الأمانة في تصويره، أؤكد لكم أن الكاتب لم يخص الملك عبد العزيز بأسطر بوصفه رمزاً من رموز العروبة، رغم أنه كان كذلك.
لننظر في موضوعات أخرى عن ملوك عرب آخرين، لنتأكد من صحة ما صوره بها.
قلت في المقال السابق إن أعداد المجلة التي توفرت عليها في عهد رئيس تحريرها الجديد محمود العزب موسى هي العدد الخامس والعدد السادس والعدد التاسع والعدد العاشر والعدد الحادي عشر والعدد الثاني عشر.


العدد الخامس، وموضوع غلافه «بطل الريف في حمى الفاروق» أفضنا في الحديث عنه في مقالين سابقين، والعدد السادس، وموضوع غلافه «وجه عربي صميم في القاهرة»، تحدثنا عنه أعلاه، وسنبدأ في الحديث عن موضوع غلاف العدد التاسع.
غلاف هذا العدد، الذي يحمل صورة الملك فيصل الثاني جالساً، ويقف خلفه خاله الأمير عبد الإله بن علي، الوصي على العرش، كان موضوعه «مملكة العراق الحديثة: أحدث دولة مستقلة لأقدم شعب». وقد رمز كاتبه إلى اسمه بحرفي: راء وباء.
هذا الموضوع عبارة عن تحقيق صحافي أوجز سيرة العراق منذ أوائل القرن الماضي، فتحدث عن المواضيع التالية: نهضة العراق القومية، والإنجليز واحتلال العراق، وعهد الانتداب البريطاني، والثورة على الإنجليز، والمعاهدة العراقية البريطانية الأولى، وأول مجلس تأسيسي، والعلاقات الدبلوماسية مع الخارج، وميثاق أسعد باد، والنشاط السياسي، والتقدم الزراعي، واتساع نطاق إنتاج النفط، وازدهار وسائل المواصلات، وحالة العراق المالية. ولم تكن في الموضوع أي إشارة إلى الملك فيصل، الذي كان في الثالثة عشرة من عمره، ولا إلى الوصي على عرش العراق الأمير عبد الإله بن علي، رغم أن صورتهما كانت على الغلاف. وبرفقة هذا الموضوع مقال كتبه أسعد داغر عنوانه «ماذا أقول في العراق!..».
أسعد داغر كتب مقاله بصيغة رسالة موجهة إلى رئيس تحرير المجلة، محمود العزب موسى، فقال في أوله: «سألتني أن أتحدث إلى قرائك عن العراق، وليس أحب إليَّ من ذلك، خصوصاً أن في نفسي من زمن كلمة صريحة أود أن أفضي بها إلى إخواني العراقيين، كلمة تجيش في صدري الذي يزفر بالحب والإخلاص والتعظيم للعراق العزيز وشعبه الكريم، فقد آلمني ما كنت أسمعه خلال السنتين الأخيرتين، من عتب وملام وتبرم يفضي به بعض ساسة العراق وصحافييه في شتى المناسبات، في جهر حيناً، وفي همس أحياناً، ويوجهونه إلى أبناء العروبة في مختلف أقطارها على اعتبار أنهم يغمطون حق العراق، وينزلونه دون المنزلة اللائقة به».


وفي ثنايا مقاله الأدبي الرقيق العذب عن العراق في وجدان رجال النهضة العربية القومية في مطلع القرن الماضي، أوقفنا على معلومة طريفة عن موقع العراق في وجدان رجال النهضة العربية القومية في مطلع القرن الماضي، أوقفنا عليها بقوله: «كانت حياتي ثلث قرن وقفاً على العراق، وأفكاري كلها متجهة إليه - وقد كنا نسميه ببومونتي العرب - وآمالي معقودة عليه، وقلبي لا ينبض إلا لذكراه، شأني في ذلك شأن جميع إخواني الوطنيين في جميع البلاد العربية». وهو هنا يشير إلى جريدة «العقاب»، التي أسسها في سوريا، والتي كانت لسان حالة ثورة العشرين على الإنجليز في العراق.
وأنتهز ذكر اسم هذا الكاتب، لأعرّف شريف يونس به، لأنه تبيّن لي من خلال كتابه «سيد قطب والأصولية الإسلامية» أنه غير ملم بنشأة وعي العرب بقوميتهم، ولا بالأطوار التي مرّ بها هذا الوعي منذ إرهاصاته الأولى، الأدبية والثقافية في أواسط القرن التاسع عشر، إلى عام 1909 - الذي يرى رواد النهضة العربية القومية الذين كتب بعضهم مذكراتهم، ومنهم أسعد داغر، وكذلك يرى بعض المؤرخين اللاحقين أنه عام النشأة الحقيقية للوعي بمعنى العروبة - ومن عام 1909 إلى ما قبل نكبة فلسطين في عام 1948، وغير ملمٍ أيضاً بتاريخ الفكرة العربية المتأخر في مصر. ولأنه غير ملم بهاتين الناحيتين سأعرّفه بأسعد داغر تعريفاً خاطفاً، فأقول: تخلط بعض الكتابات القديمة، ويخلط كثير من الباحثين المتأخرين، وكذلك بعض المكتبات العامة في بيانات فهارسها بين أسعد داغر هذا وبين أسعد داغر آخر، فالأخير شاعر وناثر ومترجم وكاتب مقالات علمية واجتماعية، واسمه الثلاثي أسعد خليل داغر، وهو متوفى عام 1935، وهو أبو المؤلف الموسوعي والعالم المكتبي يوسف أسعد داغر. أما الأول فاسمه الثلاثي أسعد مفلح داغر، وهو صحافي وسياسي من الطليعة الأولى في إرساء الفكرة العربية وخدمتها، وحين رأس القسم الخارجي في جريدة «الأهرام»، كان مكتبه نادياً فكرياً مصغراً للمشتغلين بالفكرة العربية من الشوام المتمصرين، والشوام الذين يزورن مصر، حين لم يكن فيها متشيع للفكرة العربية بمعناها السياسي سوى عدد قليل. ويطيب لي أن أعلم شريف يونس أن المقال الذي كتبه أسعد داغر لمجلة «العالم العربي» كتبه حين كان مديراً لشؤون الصحافة في الأمانة العامة لجامعة الدول العربية. ولكي يعالج شريف النقص في معلومات أساسية عن تاريخ الوعي القومي بالعروبة أنصحه بالبحث عن كتاب «مذكراتي على هامش القضية العربية» ليقرأه. فهذا الكتاب الذي يؤرخ للوعي القومي العربي من العهد العثماني إلى عهد الاستقلال العربي، نشر عام 1959، بعد وفاته عام 1958.
غلاف العدد العاشر حمل صورة شكري القوتلي، ولأن القوتلي كان رئيساً، ولم يكن ملكاً، سأتجاوز عرض ما جاء فيه إلى عرض العدد الحادي عشر، لأنه - حسب ملّة شريف يونس - لا يدخل ضمن نطاق تكفيره الماركسي للأنظمة السياسية الملكية تكفيراً عقائدياً وطبقياً! وللحديث بقية.