&رجائى عطية

&لست أقصد مسمى الدواعش فقط، وإنما أقصد كل من يعتنقون هذا الجنوح الضال الذين يستهينون بالأرواح التى خلقها الله وأمرها إليه سبحانه، ويُعملون فيهم القتل والاغتيال والذبح والسحل ويفجرون القنابل المقصودة والعشوائية ويهلكون الزرع والضرع وينشرون الدمار والخراب.

&واجتراؤهم على ذلك مرده إلى جفاف كل ينابيع الحب والعطف والرحمة.. ولا يفوت أن العطف والرحمة لا ينبعان إلاَّ من قلوب مُحبة، تملؤها مشاعر الحب بعمومه.

بمعناه الشامل الذى يتسع لأجمل العواطف الإنسانية، على رأسها محبة الله، فمحبة الله تحبب فى خلقه، أما محبة الخلق فتتسع إلى عوالم شتى.. إلى الإنسان والطير والحيوان وكل ذى روح.. وتمتد فى عالم الإنسان إلى حب الأبوين والأبناء والإخوة والأهل، وإلى الأصدقاء والجيران والزملاء.. وهو الذى يربط على قلوب الأزواج ليكون القران سكنًا وعشرة ومودة، وتبادلاً للإخلاص والرعاية والبذل والعطاء.

هذا الحب هو الذى يجعل لحياة الإنسان معنى، يتجلى فى سلوكه وتعامله، وفى صلاته وصداقاته ووشائجه وأواصره وجيرته وعمله وزمالته، وفى صدق وفائه وإسماحه، وتمتعه بلذة العطاء.. كما يتجلى فى كراهة الظلم والجور والإفساد والإهلاك، وفى حب الخير والعمار، وحب الحق والصواب والجمال والكمال.

محبة الله أم المحبات، ومن يحب الله يحب عباده ومخلوقاته، ويحترم الحياة التى خلقها الله فى الإنسان والطير والحيوان والنبات.. لا يغتالها ولا يزهقها ولا يتعدى عليها ولا يعبث بها ولا يؤذيها أو يهلكها.

الحياة هى الحب، ودون الحب لا حياة. هذا الحب لله حب فياض، ينسحب على كل من أحبه الله، وعلى الحياة التى أقامها، والكون الذى أبدعه، والإنسان الذى سواه فعدله، وكل الكائنات التى خلقها.

إن الذات الإلهية التى يذوب فيها المحب، هى المنبع الأسمى لكل ما فى الوجود من آيات الحق والجمال، وهى المورد الأسنى لكل ما فى الكون من الخير والكمال. هذا الينبوع جاف تمام الجفاف، مصاب بالقحط والجدب، لدى قلوب الدواعش وأمثالهم.

هذا الجفاف تجف معه وتبعًا له كل ينابيع العطف والرحمة.. وترخص معه الأرواح والدماء!. من أحب الله يقدس الحياة التى خلقها سبحانه، ولا يعدو عليها ولا يزهقها ولا يصادرها.. ومن امتلأ قلبه بالحب والعطف والرحمة، يستهول الدماء، فلا يقتل ولا يهلك ولا يدمر ولا يتلف، وإنما يحترم الحياة التى أبدعها الله ويسعى فيها بناءً وإعمارًا، ولا يعدو عليها إهلاكًا وتدميرًا . من شجرة الحب تتفرع أشجار الرحمة وشجيرات العطف والمودة والبر والإخاء والوفاء. ومن جفت ينابيعهم ونزعت من قلوبهم المحبة والرحمة، لا يعرفون حلاوة الإيمان، فالإيمان محبة لله وخلقه.

جاء فى وصف المؤمنين بالحديث الشريف، إنهم الأشد حبًّا لله، وإنهم هم الذين يذوقون حلاوة الإيمان.

حين تجف الينابيع، وتغيب شميلة الحب، تموت القلوب وتُجْبل النفوس على القسوة والتلذذ بها، وعلى القتل والإهلاك والإيذاء، ولولا جفاف ينابيع الحب والرحمة، لما انحدر هؤلاء إلى القتل والذبح والنحر والسحل والإهلاك، والتدمير والتخريب والإتلاف، ولما عشقوا الترويع وبث الفزع فى نفوس الناس.

وبغياب الحب، غابت عنهم محبة الأوطان .. عن المحاسن وأضدادها تحدث الجاحظ منذ نيف وأحد عشر قرنًا من الزمان، فقال فى محاسن المحبة والمودة، إن الإنسان لا ينعم فى الحياة إلاَّ بهذه المودات، وبزيادتها يزيد رصيده من الطمأنينة والمواساة، ونقيض ذلك شأنه كالتابوت المطلى، ظاهره ذهب وباطنه خواء. وحشد الجاحظ محاسن حب الوطن، وما قاله فيها أهل زمانه والسابقون عليه، فقال عمر بن الخطاب: لولا حب الوطن لخرب بلد السوء. وكان يقال: بحب الأوطان عمرت البلدان .

بالكراهية التى يضمرها هؤلاء الضالون، تخرب الأوطان!. ما ارتكبه ويرتكبونه، ممزوج بعنف شديد يجاوز النتائج المريرة المبتغاة، فهو عنف لذاته، هدفه الترويع والتخويف وبث الرعب، فانعدام الرحمة لديهم وسيلة وغاية.. يتجلى ذلك فى الأساليب التى ابتدعوها للقتل والذبح والسحل، تذبح الضحايا ذبح الشاة، فى مجازر يتبارى فيها أشاوس داعش وأترابهم، وتفجر أجساد الضحايا إلى أشلاء، ما من واقعة ارتكبوها إلاَّ وهى ممزوجة بعشق الدماء، والتلذذ بحصد الأرواح، حتى فيما بينهم لا تجد ذرة عطف أو رحمة، من الممكن أن يقتل الأخ أخاه، بل وأن يقتل الابن أباه وأمه، وتتحول العلاقات الزوجية إلى عنف يشبه الاغتصاب، وتؤخذ الأنثى كرهًا وخداعًا بما يسمى نكاح الجهاد، وترخص الأعراض لأن الأرواح ذاتها قد رخصت، وأغرب الغرابة أنهم ينسبون ما يقارفونه إلى الإسلام!.

تذكرناجريمة داعش النكراء بحرق أسيرها الأردنى حيًّا، بجرائم تتار المغول الذين لم يكتفوا بالقتل والذبح، وإنما تلذذوا بالتدمير والتخريب، واستداروا بعد أن قتلوا أكثر من مليون نسمة ليحرقوا مكتبة بغداد، وأحالوا ما فيها من الكتب والكنوز والنفائس والوثائق والمخطوطات إلى أكوام من الرماد. بلية البلايا أن من هؤلاء الضالين من ينتمون إلى مصر، بيد أن الشعور بالوطن، ناهيك بالحفاظ عليه، معدوم كانعدام الرحمة من قلوبهم، ومعها كل شيم النبل والإنسانية!. جرّهم جفاف الينابيع إلى استرخاص الأرواح وسفك الدماء، وجرهم أيضًا إلى استرخاص الوطن وتدمير مرافقه وخيراته.

هؤلاء مرضى لا يجدى معهم تطبيب ولا علاج ولا جدوى إلاَّ بسيف القانون، فلا عذر لهم فى ضلالهم، فالفكر السوى متاح إذا صحت العقول وعمرت القلوب، ولكن هؤلاء قلوبهم وعقولهم مريضة ملبوسة، تعانى القحط وجفاف الينابيع.. وهذا داء عضال، هؤلاء لو أحبوا وعرفوا الحب، لما ضمرت ضمائرهم هذا الضمور، ولما انحرفت مداركهم هذا الانحراف، ولاهتدوا بالمحبة إلى العطف والتراحم والمودة، ولااحترموا أرواح مخلوقات الله، وأعطوا للأوطان حقها من الرعاية والتعمير .