& سليمان جودة

& البدايات في مثل حالته تشير في الغالب إلى النهايات!

فالرجل جاء عليه وقت كان فيه عمدة على رأس مدينة إسطنبول، أو رئيساً لبلديتها، وكانت عموديته فيها قد طالت واستطالت حتى زادت على العشرين عاماً بسنوات، وكان أداؤه على أرضها محل إعجاب وموضع حفاوة، ليس فقط من جانب أبناء المدينة التي هي الأكبر في البلاد، حجماً وسكاناً، ولكن أيضاً من جانب أبناء مدن أخرى خارج تركيا، كانوا يراقبون ما يقدمه هو لأبناء مدينته، ويفعله، فيتمنى كل واحد فيهم لو أن الله قد رزقهم بمسؤول في مدينتهم، من نوع العمدة إردوغان ونوعيته!
كان وجوده عمدة على رأسها قد صار نموذجاً تتشوق إليه الغالبية من المدن في المنطقة من حولها، وكان هو قد أنجز فيها الكثير، وكانت هي قد شهدت تحولاً على يديه في شتى أنحائها، بحيث أمكن القول وقتها، ثم بعدها، إن هذه هي إسطنبول قبل إردوغان، وإن هذه هي إسطنبول بعد إردوغان، ثم كان وكان، إلى آخر ما لا يزال يقال عن خطواته العملية خلال سنواته فيها!
ولكن، مَنْ يصدق أن إسطنبول هذه نفسها، هي التي لما دار الزمان دورته عليها، وجاءت انتخاباتها على مستوى البلدية، في الحادي والثلاثين من مارس (آذار) الماضي، صوتت ضد إردوغان ذاته، وخيبت ظنه، وأطاحت بتوقعاته؟! وبمعنى آخر، مَنْ يصدق أنها صوتت لغير صالح المرشح بن علي يلدريم، مرشح حزب «العدالة والتنمية» الذي يرأسه إردوغان، وأعطت أصواتها في غالبيتها للمرشح المنافس أكرم إمام أوغلو، مرشح حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة في البلاد؟!
بدت إسطنبول متمردة على الرئيس الذي كان عمدة على قمتها ذات يوم، وبدت رافضة للمرشح يلدريم الذي اختاره إردوغان بنفسه لخوض السباق، معتقداً أن مدينته لا تزال على ولائها القديم له، وبدت راغبة في أن تتخلص من وصايته عليه، وبدت قادرة على أن تبعث إليه برسالة مسجلة بعلم الوصول تقول ما معناه أنها لم تتحول في مزاجها العام إزاءه، ولكنه هو الذي تبدل وتحول في علاقته معها ومع تركيا كلها!


وللوهلة الأولى لم يصدق هو أن هذه هي إسطنبول التي أعطاها من وقته، وجهده، وفكره، لسنين طويلة، لم يصدق أن تكون قد مالت إلى المرشح أوغلو، وأشاحت بوجهها عن المرشح يلدريم، لم يصدق أن إسطنبول قد استدارت عنه بوجهها، وراحت تبتسم للمرشح أوغلو وتمنحه شارة النصر!
لم يصدق الرجل، وراح يشكك في النتيجة في بعض مناطق المدينة، ثم راح يقدم الطعون في النتائج المعلنة من جانب اللجنة العليا للانتخابات في هذه المناطق، ويطلب إعادة الفوز ويتمسك بمطلبه، فلما استجابت له اللجنة مضطرة، كشفت عملية إعادة الفرز عن أن على إردوغان أن يراجع نفسه، لا أن يدعو مدينته القديمة إلى أن تبدل خياراتها الانتخابية، التي ذهبت إليها حرة من كل قيد، ولا إلى أن تراجع هي نفسها فتضع إمضاءها على عقد جديد معه، ومع مرشحه المختار يلدريم!
ولم يتصور أن تكون مدينته قد انقلبت عليه إلى هذا الحد، ولم يتخيل أن تكون قد قررت طي صفحته إلى هذه الدرجة، فراح يدعو إلى إعادة الانتخابات نفسها، على مستوى رئاسة البلدية، لا مجرد إعادة فرز أصواتها في منطقة منها هنا، أو في حي من أحيائها هناك، ولم تجد لجنة الانتخابات مفراً من الدعوة للاقتراع من جديد، وحددت الثالث والعشرين من يونيو (حزيران) القادم موعداً للاقتراع الجديد! وأطلق أكرم إمام أوغلو صيحة تقول إنه سيقود ثورة من أجل «الديمقراطية» في تركيا، وانطلقت مسيرات ليلية في المدينة، تؤيد المرشح المعارض الفائز، وترفض بالطبول والدفوف، قرار إعادة الانتخابات، وتدعو إلى الحشد من جديد وراء أوغلو!
وكانت كلمة الديمقراطية الموضوعة بين هلالين، هي السبب غير المعلن الذي جعل إسطنبول تنقلب على عمدتها القديم، فلقد كان منذ البداية قد أعلن إيمانه بالديمقراطية طريقاً إلى الحكم، ولكن تجربة الشعب التركي معه كشفت عن أن إيمانه صحيح، ولكنه إيمان بالديمقراطية التي تصل به هو إلى الحكم، ولا تصل بسواه، فإذا ما وصلت بغيره سحب إيمانه بها، ولم يعد يعتقد فيها، ولا يحبها، ولا يفضل اللعب معها، ولا يحترم قواعدها المتفق عليها في العالم، لقد آمن بالديمقراطية التي تأتي بمرشحه هو إلى منصب العمودية في المدينة.
فإيمانه بالديمقراطية من نوع إيمان جماعة «الإخوان» بها، وكلاهما يعتنق إيمان مذهب التقية الشهير، الذي يبدي شيئاً ويخفي آخر، وغالباً ما يبدي ما لا يقتنع به في داخله، حتى إذا جاء أيهما عند أول منعطف، تحلل على الفور مما كنا نظن أنه إيمان صادق عنده لا يتزعزع أمام شهية في الحكم، فإذا بها شهية لديه لا تعادلها شهية أخرى، ولا تقف في طريقها قواعد مرعية ولا تقاليد متعارف عليها!


ولم ينتبه كثيرون منا إلى أن التعديل الذي أجراه على الدستور، ليجعل نظام الحكم نظاماً رئاسياً خالصاً، لا برلمانياً رشيداً، كان هو الخطوة الأولى الكاشفة مبكراً، عن حقيقة قناعته في مسألة الديمقراطية، ولا انتبه الذين يتابعون أداءه في السلطة، إلى أن انتخابات الرئاسة في الصيف الماضي، قد جعلت منه رئيساً فوق المساءلة، بعد أن كان مسؤولاً كرئيس حكومة أمام البرلمان!
وكما يقول أهل المنطق، فإن انتقاله من موقع رئيس الوزراء المسؤول أمام البرلمان، إلى موقع الرئيس المنفرد بالقرار، يبدو عند مقارنته بموقف حزبه من انتخابات بلدية إسطنبول، بمثابة المقدمات التي تؤدي إلى نتائجها الطبيعية، ولكنه لم يكن ينتبه إلى أن المدينة الأكبر في بلاده كانت تراقب خطواته، وتريد أن تدعوه عند أول استحقاق انتخابي إلى دفع الفاتورة!