&ماجد الشيخ&&

لم يعد خطاب الكراهية وقفاً على ذئاب منفردة هنا أو هناك، كما أنه لم يعد يعيش عزلة داخل مجتمعات العالم، لاسيما بعد العديد من المحطات التي شهدت تنفيذ هجمات ذات طابع وحشي، وفوز اليمين المتطرف برئاسة عدد من دول العالم كالولايات المتحدة والبرازيل، واختراقه حكومات وبرلمانات دول عدة، في وقت يجري غض النظر عن ممارسات ومسلكيات منظمات وتيارات دينية أصولية؛ على اختلافها، لا تقتصر على دين واحد، بقدر ما يشمل ذلك كل الأصوليات الدينية؛ وهذا يتطلب اتساع الرؤية العالمية تجاه آيديولوجيات الكراهية التي تتبناها تيارات دينية "داعشية" مختلفة الانتماءات والهويات، علاوة على شبكات اليمين الشعبوي العنصري واليمين المتطرف، ووعي مخاطر هذه الشبكات ورصدها وفتح العيون واسعة تجاه ما يمكنها القيام به من عمليات توحش إرهابية، وتهديد سلام مجتمعات عالمنا المعاصر وأمنها واستقرارها.


انتعش اليمين المتطرف تحت ظلال الديموقراطية في المجتمعات الغربية، وتحت ظلال الأصوليات الدينية في مجتمعات متخلفة لا تعرف الديموقراطية، بل وتعتبرها "آيديولوجية معادية" وخطابها خطاب كراهية، في وقت يمكن القول إن الغرب عامة، والمجتمعات الغربية خاصة، أساؤوا تقدير المخاطر الآنية والمستقبلية الناتجة من إرهاب اليمين الشعبوي المتطرف نظرياً وعملياً. فعلى وقع ازدياد التطرف، وتنفيذ بعض العمليات الإرهابية، ازدادت قوى اليمين المتطرف تنامياً مع اتساع قواعده الاجتماعية والانتخابية، وإن بقيت هامشية، لكنها مؤثرة في حركة الشارع؛ ووفقاً لصحيفة الـ "أوبزرفر" البريطانية، شكل اغتيال النائبة جو كوكس في عام 2016 بداية تصعيد خطاب الكراهية لدى اليمين الشعبوي المتطرف في بريطانيا التي أصيبت يومها بالخدر والصدمة.

ومنذ ذلك الوقت، تنامت قوة اليمين المتطرف، ففي حزيران (يونيو) 2017، قتل رجل وجرح عدد آخر عندما قام متطرف يميني بدهس مصلين أمام مسجد "فينزبري بارك"، شمال لندن. وشهد العام ذاته 11 عملية إرهابية، فيما تم إحباط مؤامرة للحركة التي تنتمي للنازيين الجدد "ناشونال أكشن" التي كانت تخطط لاغتيال النائبة روزي كوبر. ولهذا السبب، حذر مدير مكافحة الإرهاب في الشرطة مارك راولي من أن بريطانيا "لم تستيقظ بعد" على مخاطر اليمين المتطرف.

وللتدليل على اتساع الظاهرة وليس هامشيتها، أشارت الصحيفة إلى "أن بريطانيا ليست البلد الوحيد الذي يواجه خطر التهديد اليميني المتطرف وإرهابه، إذ سجلت في الولايات المتحدة زيادة في عدد الهجمات التي قام بها اليمين، خاصة ما بين 2016 و2017. وقتل العام الماضي 11 يهودياً كانوا يتعبدون في كنيس في مدينة بيتسبرغ. وفي الوقت ذاته قرر الرئيس الأميركي دونالد ترامب تقليل الموازنة المخصصة لمواجهة الإرهاب المحلي. الأمر الذي يؤكد أن هناك ميلاً لدى الساسة الغربيين للتقليل من شأن عنف اليمين المتطرف، والزعم بأن الظاهرة هي نتاج أفراد وجماعات هامشية، فيما يتم النظر إلى جماعات الإرهابيين "المسلمين" كتهديد يحاول تدمير القيم الغربية الليبيرالية. وهذه الازدواجية نابعة من سهولة نسبة الشر المنظم، إلى جماعات تنتمي لمجتمعات لا تشترك كثيراً في القيم مع الغرب، بدلاً من الاعتراف بأن الشر نابع في الحقيقة من جماعات تعيش داخله، وهي متعددة الهويات والانتماءات والاعتقادات.

قد تكون عملية سفاح نيوزيلندا فتحت شهية اليمين الإرهابي المتطرف الأقل أو الأكثر شعبوية، لا فرق، على مزيد من أعمال القتل ضد أهداف محددة مسبقاً، تماماً مثلما فعل ويفعل "دواعش" إسلامويون عرب وغير عرب، لا تهمهم كما نظراء لهم في الفرق الأصولية الأخرى (مسيحية ويهودية وهندوسية وبوذية و..و.. الخ) على اختلاف أديانها ومذاهبها وطوائفها على امتداد العالم، جميعهم يسلكون طرق القتل والإجرام ذاتها، وتلك فاشية موصوفة، حين ينفذ المجرمون ما يمكن أن يجلب لنفوسهم المريضة "الراحة"، وفقا لما يصرح القتلة بعد كل عملية يقومون بها، وهذا تحديدا عائد لطبيعة الأصوليات الدينية الفاشية التي ترفض الحوار مع الآخر، ولا تطيق وجوده أصلا، وتسعى لإبادته إن استطاعت.

بالطبع، لا تختلف أهداف العمليات الإرهابية على امتداد العالم في طابعها الإجرامي المتوحش، طالما هي في اعتقاد أصحابها، تخدم الهدف أو المرامي التي يسعى لتحقيقها إرهابيو وانتحاريو التنظيمات الإرهابية، لجهة سعيهم إلى إعلان القطيعة المطلقة مع الآخر القريب أو البعيد، هذه القطيعة التي تحاول استبدال الحياة بالموت، لتعلن الموت نهاية درامية مؤثرة تصب في صالح متلازمة النفوس المريضة، وهي تسعى لأن تدنو من انتصار متوهم ضد آخر، أو ضد الآخر بشكل مطلق.

ما جرى في سيريلانكا أخيرا، وفي مناسبة عيد الفصح، من عمليات إجرامية انتحارية ضد عدد من الكنائس والفنادق، وما يجري من عمليات قتل وإجرام وحشي ضد دور عبادة مختلفة في عالمنا المبتلى بنزعات إجرام تزداد وحشية مع الوقت، أثار ردود فعل هائلة. فكما ورد في "مانيفستو الاستبدال الكبير" الذي جرى الكشف عنه في أعقاب هجمات نيوزيلندا، يشير النص المؤلف من 73 صفحة، إلى سعي سفاح نيوزيلندا إلى مهاجمة مسلمين، وقد نجح في ذلك، لكن عنوان النص مستوحى من نظرية الكاتب الفرنسي رونو كامو في شأن اندثار الشعوب الأوروبية التي تستبدل بشعوب غير أوروبية مهاجرة. وباتت هذه النظرية منتشرة بشدة في أوساط اليمين المتطرف. وهي نظرية مبالغ فيها، تتقصد خلق وإشاعة أساطيرها الخاصة على طريقة أساطير التزييف التوراتية التي جعلت من فلسطين وطنا قومياً ليهود العالم. كما تستهدف وتتقصد إثارة حروب وفتن دينية يراد لها أن تعم العالم كله.

في "مانيفستو" الجريمة، الذي يُستبعد أن يكون واضعه فرداً، كمجرم نيوزيلاندا، بل مجموعة أو مجموعات منظمة أو جهازاً وربما أجهزة، ظهرت بوضوح آيديولوجيا اليمين المتطرف، حيث وضع الـ "مانيفستو" الإرهابي أهدافاً سياسية للقتل، على رأسها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وعمدة لندن صادق خان، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان. كما حمل الـ "مانيفستو" تعهدا بقتل المسلمين الذين وصفهم بـ"الغازين" و"المحتلين"، وبدا القاتل الأسترالي مهووساً، من خلال كتاباته التي لم يوقعها باسمه، بـ"المذبحة بحق البيض"، على أيدي من يصفهم بالغزاة من المهاجرين، مع عقدة مرضية من ارتفاع نسبة الخصوبة عند "غير البيض". وكتب أنه قام بفعلته "لأنتقم لمئات آلاف القتلى الذين سقطوا بسبب الغزاة في الأراضي الأوروبية على مدى التاريخ.. ولأنتقم لآلاف المستعبدين من الأوروبيين الذين أخذوا من أراضيهم ليستعبدهم المسلمون". كما تأثر بأسماء كثيرة، من أندرس بيهرينغ بريفيك مرتكب هجمات النرويج في عام 2011، وكانداس أوينز، الصحافية الأميركية المحافظة والمؤيدة ترامب. وديلان روف، منفذ هجوم تشارلستون في عام 2015.

مثل هذا الـ "مانيفستو" "الداعشي" بامتياز، لا يختلف عن عديد الإعلانات التي قد يفصح أصحابها أو لا يفصحون عن أهدافهم الحقيقية الكامنة خلف عملياتهم الوحشية، والتي يمكن تلخيصها بنظرية الإحلال، بمعنى "الاستبدال الكبير"، حيث يسعى الكل إلى إبادة الكل والحلول محل الآخر، كل آخر. ما يضعنا أمام ظواهر "داعشية"، لا تتوانى عن تقديم قرابينها وأضاحيها من لحم ودم بشر أسوياء. ولم تعد هذه الظاهرة تكتفي بخطابات الكراهية، بل هي تتجاوزها اليوم، معلنة بالنار وبأساليب عنفية خطابات قتل ذات طابع فاشي، تشجع عليها سياسات دول وحكوماتها، وعدد من برلمانييها وأحزابها الشعبوية المتطرفة، حتى بتنا أمام احتمالات تبادل هجمات وهجمات مضادة في إطار حرب تتمظهر دينياً، إن لم تكن تتقصد إشعال حروب دينية مباشرة. وقد تعود الظاهرة بالأصل إلى أسباب عرقية أو قومية، تتغذى من خطابات الكراهية المسكوت عنها في بعض دوائر الحكومات الأوروبية، وربما تجري بتشجيع من جمهور يميني شعبوي، ولو كان قليل العدد، إلا أنه مؤثر في حسابات الربح والخسارة الانتخابية.
&