&توفيق السيف

&

أستطيع القول، من دون تحفظ، أن الإصلاح الديني رهن بالتعامل مع ثلاث معضلات؛ أولها وأصلها فيما أظن هو هيمنة النهج الفقهي على التفكير الديني، أما الثاني، فهو الاستسلام للنهج الإخباري في وضع القيم والأحكام، وأخيراً تحويل الاحتياط إلى معيار للتدين.
أعلم أن هذه دعوى عريضة. ويعلم القارئ أن المجال المتاح لا يسمح بمجادلة مطولة حولها. ولذا سأكتفي بشرح موجز للمعضل الأول، طمعاً في إثارة الأذهان للتفكير فيه، وهذا غاية المراد.
موضوع علم الفقه هو «فروع الدين» التي تنقسم إلى عبادات ومعاملات. وغرضه استنباط الأحكام، أي تحديد الواجب والمحرم والمكروه والمستحب. وبسبب انحصاره في هذه الدائرة، فإن تطور العلم واتساعه، انصرف إلى البحث عن مزيد من الأحكام، أي توسيع دائرة الموضوعات الشرعية. ومع مرور الوقت بات التوسع في الأحكام، مجالاً للتنافس بين المشتغلين بعلم الفقه. حتى لو سألت أحدهم عن رأي الشرع في زرع هذا النوع من الشجر أو ذاك لأفتاك، ولو سألته عن حكم هذه الرياضة أو تلك لما تأخر في الجواب.
لا يكترث الفقه بأحوال القلوب، قدر ما يركز على الشكليات والأفعال الظاهرة. ومن هنا فإن معيار التمييز بين المتدين وغير المتدين هو السمات الظاهرية، أي ما يظهر على الإنسان وما يراه الناس في شكله الخارجي ولباسه ولغته.

في الوقت الحاضر يشكل علم الفقه بوابة الولوج إلى علوم الشريعة. بل لا نبالغ لو قلنا إن مسمى علم الشريعة ينصرف إلى علم الفقه في المقام الأول. أي أن علم الفقه يشكل الجزء الأكثر بروزاً وتأثيراً من المعرفة الدينية. مع أن الموضوع الذي يختص به، أي «فروع الدين»، وهي تضم كما سلف العبادات والمعاملات، لا تشكل غير نسبة صغيرة من مساحة المعرفة الدينية. وقد أشرت في مقال سابق إلى أن آيات الأحكام التي تشكل موضوعاً لعمل الفقهاء، لا تزيد عن 500 آية، أي نحو 8 في المائة من مجموع القرآن.
هيمنة المدرسة الفقهية على علم الدين لم تبدأ اليوم. بل أظنها بدأت في وقت ما بين القرن الثاني عشر والقرن الخامس عشر الميلادي، حين انحسر الاهتمام بالمعارف العامة، ومنها المعارف الدينية، وانحصر في علم الفقه دون غيره. ومع الوقت، بات مسمى المجتهد أو عالم الدين أو الفقيه، يطلق على العالم في الفقه بصورة خاصة، وانصرفت مدارس العلم الديني إلى دراسة الفقه، دون غيره من علوم الشريعة.

هيمنة النهج الفقهي تعني بالتحديد هيمنة الرؤية التي تنظر للدين باعتباره أداة تقييد لحياة الأفراد وسلوكياتهم. ونعرف أن هذا أمر يخالف هدفاً عظيماً للرسالة السماوية، وهو تحرير العقول والقلوب.
لا نحتاج إلى كثير من المجادلة في النتائج التي تترتب على تطبيق هذا المنهج، فهي واضحة أمامنا، ونراها كل يوم، لا سيما في كلام الفقهاء التقليديين وتطبيقاتهم. وهي في الجملة تطبيقات حولت الدين الحنيف إلى موضوع للامتهان والسخرية، كما تسببت في هجرانه من جانب شريحة واسعة من أبنائه.
معرفة الله والإيمان به والسلوك إليه والالتزام بأمره، ليست مشروطة باتباع آراء الفقهاء ونتائج بحوثهم. فهذه لم يعرفها المسلمون إلا في عصور ضعفهم وانحطاط حضارتهم. لا نريد القول بوجود علاقة سببية بين هذه وتلك، لكن التقارن بين الاثنتين لا يخلو من تأمل.

&