& علي العميم

&

نستخلص من الوثيقة الأولى، وهي مقال سيد قطب عن الملك عبد العزيز آل سعود، ومن الوثيقة الثانية، وهي رسالته الشخصية إلى الأمير عبد الله بن عبد الرحمن آل سعود، المتعلقة بمجلة «العالم العربي»، ومن الوثيقة الثالثة، وهي رسالته الشخصية إلى الأمير نفسه المتعلقة باختيار الحكومة السعودية للدكتور أحمد حسيب الحكيم للعمل فيها طبيباً، أن سيد قطب في مرحلته الأدبية لم يكن، كما صوَّره شريف يونس، كارهاً أو معادياً لطبقة الملوك والأمراء في العالم العربي، بل هو سعى إلى التعرف شخصياً على الأمير عبد الله بن عبد الرحمن آل سعود حين زار مصر برفقة أخيه الملك عبد العزيز آل سعود عام 1946.

والذي يسّر لسيد قطب بناء علاقة شخصية معه، أن الأمير عبد الله بن عبد الرحمن آل سعود كان شغوفاً بالقراءة. ومن المؤكد أن سيد قطب قبل أن يسعى إلى التعرف عليه شخصياً، كان الأمير قد قرأ له مقالاته الأدبية والنقدية التي كان ينشرها في مجلة «الرسالة»، وفي بعض المجلات الأدبية في مصر.
يقول سليمان بن محمد الحديثي في كتابه «الأمير عبد الله بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود: سيرة تاريخية وثائقية»: «اشتهر الأمير عبد الله بلقب عالم آل سعود، وفقيه آل سعود، وأحياناً يقال أديب آل سعود، وشاع أن الذي لقبه بعالم آل سعود وفقيههم هو الملك عبد العزيز».
وينقل عن عباس محمود العقاد قوله عنه «والأمير عبد الله كما هو مشهور عنه أعلم الإخوان النجديين بالثقافة الإسلامية والتواريخ العربية، ويقول عنه جلالة أخيه كلما استطرد الحديث إلى مسألة من مسائل الفقه أو العلم متواضعاً صريحاً في تواضعه الجميل: إن الحروب شغلتني عن التبحر في العلوم والتوسع في الدراسة، أما الذي استوفى نصيبه منها فهو هذا... ويشير إلى سمو الأمير حيث كان في مجلسه بجواره».
ونستخلص من الوثيقة الثانية زيف ما قاله شريف يونس بأن سيد قطب رفض تحويل مجلة «العالم العربي» إلى أداة مدح لملوك العرب. وهو القول الذي أثبتنا من خلال عرضنا لموضوعات المجلة عن بعض ملوك العرب أنه افتئات وترخُّص في القول.
الزيف في ذلك القول - بصرف النظر عن عدم دقته - هو كيف يستقيم ذلك الرفض مع إرسال رسالة شخصية وخاصة لأمير هو أخ لملك من ملوك العرب، يلمح فيها إلى الأمير - كما قال سليمان الحديثي - كي يوقف دعمه للمجلة، بعد أن ترك رئاسة تحريرها، ويلمح إلى الأمير - كما أضفت أنا - أن يوقف اشتراكه فيها؟!

إذا قارنا بين نص الإعلان الذي أرسله سيد قطب لعدد من الصحف والمجلات، والذي أوردناه في مقال «سيد قطب والسخرية من مبادئه الخاصة»، وبين الرسالة التي أرسلها إلى الأمير عبد الله بن عبد الرحمن آل سعود، سنجد أن ما هو مشترك فيها هو محاولة إلحاق الأذى والضرر المالي بيوسف شحاتة وشريكه في ملكية المجلة. والفرق بينهما، أن ما جمجم به في الإعلان من ذم أخلاقي مبطن صرح به في الرسالة، لأن الإعلان علنياً والرسالة كانت سرية.
ونستخلص من الوثيقة الثالثة، أن سيد قطب ليس كما صوره شريف يونس وصوره المتحزبون له، تقياً ومتعففاً تطهرياً، فالطبيب أحمد حسيب الحكيم اختارته الحكومة السعودية للعمل فيها، فما الحاجة لأن يرسل خطاب تزكية لـ«ينال رعاية وعطف، ورضا وعناية» الأمير؟
خطاب التزكية هذا ليس له إلا دلالة واحدة، وهو أن سيد قطب أراد أن يُدل على هذا الطبيب بمعروف تعريفه بشخصية مهمة ونافذة في الحكومة والمجتمع السعوديين.
كتاب على شلش «التمرد على الأدب: دراسة في تجربة سيد قطب»، وهو دراسة نوعية ومميزة في خضم الدراسات المعمولة عن سيد قطب باللغة العربية، وبلغات أجنبية، كان من ضمن المراجع التي اعتمد شريف يونس عليها في كتابه «سيد قطب والآيديولوجية الأصولية».
قال علي شلش، وهو يجيب عن هذا السؤال الذي طرحه: لماذا وقع الخلاف بين سيد قطب والعقاد، وكيف؟: «ويبدو أيضاً أن هذا التعريض بالعقاد وغمزه كانا افتتاحية لمعزوفة من الغضب والشعور بالظلم، تصاعدت نبراتها بعد ذلك حتى بلغت حد العنف في ربيع 1947. فقد نشر طه حسين مقالاً ذكر فيه صراع الأدباء الشيوخ والشباب. وانبرى له سيد قطب، واتهم الأدباء الشيوخ بالانصراف إلى الدعاية لقضية المستعمرين وقت الحرب، وإيثار اللذائذ، والتخلي عن الواجب الوطني والقومي، ثم الكتابة بعد الحرب في مواخير....(يقصد صحف دار «أخبار اليوم» التي استقطبت العقاد والحكيم أثناء الحرب وبعدها).

ضم هذا الهجوم فقرة من النوع الذي يغني فيه المرء على ليلاه. وفيها قال قطب: لم نجد عندكم الضمير الأدبي الذي كنا نتخيله في الأساتذة المرموقين. فأنتم لا تحاولون أن تبرزوا على المسرح إلا أذيالكم أو بطانتكم. وإننا معذورون إذا شككنا في شهاداتكم لبعض الناس وفي إغفالكم لبعض الناس».
ثم أحال علي شلش في الهامش إلى مجلة «العالم العربي» عدد أبريل (نيسان) عام 1947، وإلى مقال سيد قطب «معركة الضمير الأدبي في مصر» ص 52. وكتب بعد الإحالة ما يلي: «وكان قطب تولى الإشراف على تحرير هذه المجلة (شهرية) منذ ظهورها في مطلع ذلك العام، ثم تركها عقب نشر مقاله المذكور.

أما مقال طه حسين المشار إليه فقد نشره بالعدد ذاته من المجلة المذكورة. ومن الطريف أن (الهلال) نشرت بعد بضعة أشهر كلمة لأديب شاب غير معروف (طه خطاب طه) بعنوان (أتهم الأدباء) وفيها ردد كلاماً شبيهاً بما كتبه قطب. فقد وجه إلى شيوخ الأدباء أربعة اتهامات هي: التمرغ في أحضان السياسة إلى حد العمل كأبواق للأحزاب وألسنة للمطامع والشهوات، والأنانية والجشع والاحتكار، ولو أدى ذلك إلى القضاء على روح الطموح والسمو عند الأدباء والناشئين».
أقول: مع أن كتاب علي شلش المذكور كان من ضمن المراجع التي اعتمد شريف يونس عليها في كتابه، إلا أنه لم يلتقط إشارته المهمة التي قال فيها: إن قطب تركها عقب نشر مقاله المذكور، أو أنه أهملها قصداً لأنها لا تتماشى مع تفسيره المعلول والعليل والمعتل للخلاف بين سيد قطب وبين يوسف شحاتة.
مقال سيد قطب «الضمير الأدبي في مصر: شبان وشيوخ» الذي رد فيه على بعض ما قاله طه حسين في مقاله «كما أنت... أيها الصديق» المنشور في مجلة «الهلال» في عدد يونيو (حزيران) عام 1947، مقال سفيه ومسّف، وسأنقل لكم مقطعاً منه، انحدر سيد قطب فيه إلى درك متدن من السوقية والبذاءة:
«ويقولون لهم (يقصد يقول الأدباء الشباب للأدباء الشيوخ) لقد حملنا لكم في أنفسنا شعور التوقير والتكريم، حينما كنتم تواعدوننا فنلقاكم في صحف كريمة نظيفة. ولكنكم في سنوات الحرب وبعد سنوات الحرب رحتم تواعدوننا في مواخير. هجرتم صحفكم الأدبية العلمية النظيفة ورضيتم صحفاً أخرى. وواعدتمونا هناك، حيث لقيناكم وبجواركم.... والموضوعات القذرة، والغرائز المخلة، وانقسمتم إلى فريقين في هذه المواخير. فريق وهو القليل نذهب إلى موعده فنجده صاحياً في وسط المخمورين، يتكلم بلسانه هو ولهجته هو، ويلقي دروسه الجادة بين المخمورين والمعربدين. وبعضكم وهو الكثير، نذهب إلى موعده فإذا هو مخمور مع المخمورين معربد بين المعربدين، يتحدث بلغة الماخور الذي استأجره، وينزل إلى لهجته في الحديث، وإيماءاته في الإلقاء...

لماذا؟ ألأنكم مضطرون للعيش؟ كلا فالصحف النظيفة العفيفة كانت ترزقكم رزقاً معقولاً، والكتب القيمة الطريفة كانت تكفل لكم الحياة الكريمة. ولكنه الترف الرخيص، واللذة الشهية، والرخاوة المترهلة، هي التي تستعبدكم للمواخير وأصحاب المواخير».
يتحدث سيد قطب في تشبيهه السوقي والبذيء هذا عن استكتاب الصحافي مصطفى أمين لشيوخ الأدب في مجلة «الاثنين والدنيا» الصادرة عن دار «الهلال»، حينما كان رئيساً لتحريرها ما بين عام 1941 وعام 1944. واستكتابهم في جريدة «أخبار اليوم» حينما أسسها مع أخيه التوأم علي أمين عام 1944، واستكتابهم في مجلة «آخر ساعة» حينما اشتراها من الصحافي محمد التابعي عام 1946، ومنحهم مكافآت مالية مجزية نظير ما يكتبون.
يقول شريف يونس في الفصل الأول من كتابه المذكور: انتهت علاقة سيد قطب بمجلة «العالم العربي» بسبب الخلاف مع صاحبها حول سياسة المجلة. ثم يحيل إلى هامش، هذا نصه: «خطاب سيد قطب إلى كامل الشناوي، يطلب فيه نشر بيان عن تخليه عن رياسة تحرير (العالم العربي) لأسباب تتعلق بمبادئه الخاصة: أرشيف مؤسسة (أخبار اليوم)، ملف سيد قطب تحت رقم 145. وقد أشر مصطفى أمين بالرفض لسابق هجوم سيد قطب على مجلة (الاثنين). حول ظروف ذلك: راجع ص 3». أي صفحة 3 من ملف سيد قطب الموجود في أرشيف مؤسسة «أخبار اليوم».
يا لصفاقة سيد قطب في المقال الذي بسببه أقاله يوسف شحاتة من رئاسة التحرير، فهو يصم تلك المطبوعات بالمواخير التي تعج بالسكارى والمعربدين والمومسات (وهو هنا يقصد الموضوعات الخفيفة والمسلية وصور الفتيات العصريات وصور الممثلات)، ويصم مصطفى أمين بأنه من أصحاب المواخير، ويطلب في الوقت نفسه أن ينشر بيانه أو إعلانه في الجريدة التي يملكها ويرأس تحريرها مصطفى أمين!
هذه الحقيقة الصادمة تعامى شريف يونس عنها، وقدمها بطريقة مخلة وغير أمينة. وللحديث بقية.