& عدنان كريمة

نجح لبنان في إقرار موازنة الدولة للعام الحالي بخفض العجز المالي من 11.4% إلى 7.59% من الناتج المحلي الإجمالي، تنفيذاً لشرط مؤتمر «سيدر» الذي حدد تخفيض العجز بنقطة واحدة سنوياً لمدة خمس سنوات، وبذلك سيحصل على مساعدات وقروض ميسرة بقيمة 11.5 مليار دولار من الدول المانحة ومؤسسات التمويل الدولية. وبما أن معظم هذه الأموال ستنفق على مشاريع استثمارية مشتركة بين القطاعين العام والخاص، بما فيها مشاريع البنية التحتية، فقد لحظت الموازنة فقط نسبة 9 في المئة من الإنفاق الحكومي على الاستثمار، في مقابل 35 في المئة للرواتب والأجور، و37 في المئة لخدمة الدين العام، ونحو 11 في المئة لتغطية عجز الكهرباء، مع العلم أن الخفض الرئيسي للموازنة طال النفقات الاستثمارية بنحو 400 مليار ليرة، إضافة إلى تأجيل الإنفاق على عدد من المشاريع إلى سنوات مقبلة، لذلك وصفها الخبراء بأنها موازنة «أرقام وحسابات» من دون أي رؤية اقتصادية، وبعيدة عن الأهداف التنموية التي تعتبر الأساس في موازنات الدول.&

وفي الوقت الذي أقر فيه مجلس الوزراء الموازنة، صدرت تقارير مصرفية تؤكد ضعف أداء الاقتصاد اللبناني، وقدرت معدل النمو للعام الحالي، بأنه لن يزيد على الواحد في المئة، في حين أن معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وخصوصاً مكافحة الفقر والبطالة، تتطلب نمواً لا يقل عن 6 في المئة سنوياً. ومع استمرار العجز في الميزان التجاري البالغ نحو 17 مليار دولار، وعجز ميزان المدفوعات لأكثر من 6 مليارات دولار سنوياً، يقدر الخبراء أن يصل إجمالي متطلبات التمويل الخارجي للبنان إلى 18.7 مليار دولار هذا العام، ما يعني أن البنك المركزي سوف يضطر إلى دفع نحو 5.7 مليارات من احتياطه من العملات الأجنبية. وبما أن لبنان بحاجة دائمة إلى الدولارات، فإن معالجة هذه المشكلة لم تعد ممكنة إلا بتغيير النموذج الاقتصادي ككل، أي إعطاء الأولوية لحل أزمة الاقتصاد، لا أزمة النقد. فأي أموال يمكن تحصيلها في الوضع الراهن، لن تساهم سوى في تأجيل المشكلة، طالما أن النزف المستمر في الميزان التجاري سيأكل أية إيرادات يمكن تحصيلها، حتى لو انخفض عجز الموازنة مؤقتاً.

في الواقع أن المعالجة العميقة للأزمة المالية واستمرار عجز الموازنة، كشفت «عورات» الاقتصاد اللبناني ومواطن الخلل المتراكمة طوال السنين الماضية، وبما يدل على وجود مشكلات في بنيته الأساسية، لاسيما لجهة توزيع مصادر الدخل في الناتج المحلي، إذ تبلغ حصة الزراعة أقل من 5 في المئة، والصناعة 12 في المئة، مقابل ارتفاع الخدمات إلى نحو 73 في المئة، والإدارة العامة إلى 10 في المئة، الأمر الذي حوّل لبنان إلى مجتمع يعتمد على الاستيراد في تأمين حاجاته الاستهلاكية، وإهمال الإنتاج في الزراعة والصناعة. وهنا تبرز أهمية تضمين الموازنة بنداً بفرض رسم 2 في المئة على السلع المستوردة، ويكاد يكون البند الوحيد الذي ينطوي على رؤية اقتصادية- مالية، رغم أن نسبته ضئيلة جداً، بينما كان يجب وضع خطة جمركية تأخذ بالاعتبار زيادة إيرادات الخزينة، وحماية المنتجات الوطنية من المنافسة الأجنبية، وتشجيع المستثمرين على الاستثمار في إنشاء صناعات محلية بديلة من الاستيراد، عن طريق تقديم إعفاءات ضريبية، وحوافز وتسهيلات مصرفية، وتوفير طاقة كهربائية بكلفة متدنية، وكل ذلك من شأنه أن يساهم في خفض العجز بالميزان التجاري وميزان المدفوعات، ورفع معدلات نمو الاقتصاد الوطني.
*كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية

&

&