& &محمد البشاري

في الوقت الذي حاول فيه البعض أن يفرض على المسلمين أن يصبحوا حيارى متخبطين بين القديم والحديث، وبين ما فُرِض في الدين، وما فَرضه المتدينون بناءً على ألف سبب قد يُعد أبسطها، المكانة الفخرية التي منحت لهم، لتغدو تمثالاً ذا هالة قدسية، ونزولاً عند ذلك، وحقناً لدماء المسلمين بل الإنسان، التي تسفك دماؤهم أو تمزق حقوقهم، بحجج أدنى ما توصف به أنها «جهل»، وبفضل حكمة عقلاء الأمة وولاة أمرها النبهاء، وامتثالاً لقول الله تعالى: «كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر»، وسيراً على نهج الرحمة المرسلة للعالمين سيدنا محمد صلوات ربي عليه، عامةً والوثيقة المحكمة المعقودة قبل أربعةَ عشرَ قرناً خاصةً، أتى إطلاق «وثيقة مكة المكرمة» في مؤتمر علماء الأمة المنظم من طرف رابطة العالم الإسلامي.
وحين جاءت هذه الوثيقة مرتكزةً على 29 درّة، وكأنها تحاكي عدد أيام الشهر الفضيل، متوسمة بعظمة وقدر الزمان والمكان اللذان أحاطا بها، مما عزز ورسخ من تأكيد على أهمية المرجع الروحي للعالم الإسلامي، وقبلته المخدومة بريها إخلاصاً وحباً وعطاءاً سعودياً مشرفاً جليلاً.&
وللمتأمل بوثيقة مكة التاريخية، نصيب من إدراك ما تصبو إليه نواة الإدارة الدينية السعودية، بالتكاتف والتراص مع كبار القيادات الدينية المسلمة من شتى أنحاء العالم، من ترسيخ قيم الوسطية والاعتدال الحقة، التي تعكس رسالة الإسلام السمحة الخيّرة.&

إذ بدأت الوثيقة مشددةً على ضرورة إدراك التكريم الإلهي الذي منحه للبشرية جمعاء من التساوي في الإنسانية ومستلزماتها، إضافةً لرفض كل ما قد يشوب نقاءها من شعارات مشبعة بالعنصرية، وراوية لعروق الاستعلاء الفاسدة، مبرزةً التعدديات كضرورة لاكتمال الفسيفساء الكونية التي لم تكن إلا بحكمة بالغة من الخلّاق العليم، ومتخذةً من التنوع الديني والثقافي هو البذرة الصالحة لشراكة وإنماء وازدهار «عالمي إنساني»، مرتكزٍ بالمرتبة الأولى على مبدأ «المحبة للجميع».&
كما عكست الوثيقة مستوى الوعي الحقيقي، والسعي الجاد في توحيد صفوف بني البشر، في سبيل تشييد جسور الألفة والمحبة والوئام، موحدةً الإنسان الذي، وإن اختلف لونه أو لسانه، توحد مع أخيه الإنسان في الجوهر، فأصل الأديان كافةً هو واحد، وبذرة النهوض بأتباعها اتحادهم دون الالتفات للاختلاف إلا كأساس للائتلاف، والتلاحم، والتآخي، فالأديان كافةً تعلن براءتها من براثن مستغليها وفلسفاتهم المقصودة لأهداف لا تمت للأديان بصلة، إذ لم ولن ولا يأمر ديناً أياً كان بالقتل والتشريد والإيذاء، وإنما لبث الأمان والطمأنينة في القلوب، وذلك ما أثبته الكثير من أبناء الحضارة الإسلامية والإنسانية، والتي نحتضنها بين أيدينا اليوم إرثاً وبرهاناً على امتداد الرسالة الإنسانية الراسخة، والتي لا يمكن أن تتوقف عند حاجز مختلق.
ولأن للتشريعات سطوة حق، ولديها القدرة على كسر الظلم والعدوان، فقد نصت الوثيقة التاريخية، المحفوفة بعبير مكة المكرمة، على ردع عوامل تشويه سماحة الأديان، ومنع تغدية أشواك الصراعات الدينية والإثنية، واستمرار المضي الجاد في مكافحة الإرهاب والظلم والقهر، ودرء كل ما انتجته الأحداث العالمية من صور وأفكار مغلوطة، ونمطية منحرفة، رفضاً لاستغلال بني البشر، ووقوفاً جاداً لنصرة القضايا العادلة، وصداً للمحاولات الحثيثة من بعض الدول الداعمة للإرهاب في التدخل بشؤون الدول، والنخر في أساساتها، فتحاً لنوافذ الإرادة لإدخال التجارب الناجحة لحيزها، والاستفادة منها، لتصبح

الأقدر في مواجهة كل ما يواجهها، ببناء جيل محصن غير قابل للانصهار والذوبان، معتزاً بهويته مفتول «عضلات الدماغ» قبل أي شيء آخر، محتضناً لاهتمامات شبابه ونسائه وأطفاله، وساعياً بدأب لتحويلها لمقدرات وثروات عالمية.&
وإبان ما شهدته أطهر بقاع الأرض، من ثلاث قمم خليجية عربية إسلامية، تأكيداً للاعتصام بحبل الله في مواجهة تحديات الفتن الطائفية والمذهبية، وكل محاولات تهديد أمن وسلامة البلدان، ومواجهة مشروع تصدير الثورة الخمينية ثورة الفتن والتقسيم، وغيرها استلزم من صفوفنا الاتحاد كصف واحد، ومن سواعدنا ساعداً واحداً معلياً من الحق فعلاً لا قولاً فقط، وصافعاً للشر ومحاولات تمزيق أسس الإنسانية، ورافعاً راية المحبة، ومعلناً وقت البناء والنهضة المرتكزة على حب الأوطان، ونصرة «كل» بني الإنسان.

&