& فـــؤاد مطـــر

&

كـأنما رأى الملك سلمان بن عبد العزيز وهو يتأمل في أحوال الأمتيْن، وكيف أن إيران غدت دولة إقلاق لجيرانها وللدول العربية، فضلاً عن حضور مقلق لها في بعض المجتمعات الدولية، أنه من الواجب عدم إبقاء دول الأمتيْن العربية والإسلامية في منأى عن دور تؤديانه، فلا تبقى الأزمة التي بدأت شراراتها الكلامية تتطاير مجرد خلاف حول النووي وبعض المتفرعات بين إدارة الرئيس ترمب والنظام الثوري غير المنضبط، ثم يدخل المظهر العسكري على ساحة الخلاف الكلامي، ويتم إظهار بعض الأنياب من جانب الرئيس ترمب وبعض مستشاريه العسكريين، عِلْماً بأن الإيذاء الإيراني أصاب الأخ والجار العربي أكثر مما أصاب كبيرة دول العالم.

من أجْل ذلك، وبحيث لا تكون الحالات الطارئة لعدم استقرار بعض الدول في الأمتيْن سبباً لترْك الجانبيْن الأميركي والإيراني يواصلان المبارزة الكلامية، فيما دول الأمتيْن تقف موقف المتفرج، فلا توضح الأذى اللاحق بها، ولا تحدد مطالبها، كما لا تطرح مبادرات كفيلة بإطفاء حرائق يمكن أن ينعكس أذى لهيبها على الاستقرار والتنمية التي تشق طريقها نحو نقاط الإنجاز... إننا نفترض أن الملك سلمان بن عبد العزيز رسم خريطة طريق تحدُث للمرة الأُولى بهذه الرحابة، فيدعو إلى انعقاد ثلاث قمم في خلال ثلاثة أيام، وفي مكان واحد له قدسيته، آملاً من ذلك توضيح أمر أساسي، وهو أن الهم الخليجي من الهم العربي، وأن كلا الهميْن من الهم الإسلامي. وزيادة في التوضيح، فإن المملكة العربية السعودية عندما تشكو من هذا الجنوح الإيراني الذي تجاوز كل الأعراف والأصول، فإنما ترى أن تكون المواجهة غير مقتصرة على أي طرف دولي، وأن الأمتيْن العربية والإسلامية اللتين عليهما يقع الضرر الأفدح من الدولة التي لا يردع تطلعاتها نصح أو مبادرات أخوية، مطالبتان بأن تكونا حاضرتيْن في المشهد الذي يبغي وضْع حد للجنوح الذي تشعبت حالات الأذى منه.
القمة الخليجية استثنائية، وإن كان التشاور بين القادة ورموز الدبلوماسية لا ينقطع بين انعقاد وانعقاد. والقمة العربية الراهنة هذه بالذات تذكِّرنا من حيث موجبات الانعقاد الاستثنائي وظروفه بذلك الانعقاد الأول للقمة العربية بعد انقطاع دام ثماني سنوات.
كان ذلك من 13 إلى 17 يناير (كانون الثاني) عام 1964. فقد رأى الرئيس جمال عبد الناصر أن وقفة عربية موحدة المطالب، فضلاً عن إزالة الشوائب في العلاقات، بات لا بد منها، وأنه من غير المنطقي ألا يلتقي العرب في قمة تنهي الخلافات، وتوقِف الحملات الإعلامية المتبادَلة. كما أنه ليس مقبولاً ألا يتجاوز القادة ظروفاً خلافية أو حالات مصيرية تعيشها الأمة، ولا يلتقون في مؤتمر توضع فيه التناقضات جانباً، ويلتقي الجمع على كلمة سواء في شأن أمور تهدد الأواصر والمصائر. وكان الدافع لدى عبد الناصر لتوجيه دعوة إلى إخوانه القادة العرب من أجْل عقْد قمة، وفي رحاب مقر الأمانة العامة للجامعة العربية، أنه عندما ألمَّت بمصر نائبة العدوان الثلاثي، بدأ يتطلع إلى وقفة عربية من الحكومات ومن الشعوب. وكان ثلاثة أشقاء من أبناء الملك عبد العزيز هم الأمراء سلمان وسلطان وتركي من أوائل المبادرين إلى تجنيد أنفسهم إلى جانب الشبان المصريين والسودانيين في مقاومة العدوان. وأما على صعيد الوقفة العربية، فإن لبنان، وفي شخص رئيسه كميل شمعون، وجّه من دون أن يُطلَب منه ذلك الدعوة إلى قمة عربية استثنائية يتدارس الملوك والرؤساء التسعة (زمنذاك) المشاركون فيها الموقف الناجم عن العدوان البريطاني - الفرنسي - الإسرائيلي على مصر عقاباً للرئيس عبد الناصر على تأميم قناة السويس. وإذا كانت تلك القمة لم توقِف المعتدين عند حد، إلا أنها بانعقادها بعد عشر سنوات من قمة المؤسسين التي تُعرف «قمة أنشاص» التي استضافها الملك فاروق يومي 28 و29 مايو (أيار) 1946. ومن باب المصادفة، بمثل اليوميْن اللذيْن حل فيها بعد 73 سنة قادة دول الخليج وإخوانهم قادة الدول العربية وقادة الدول الإسلامية ضيوفاً على الملك سلمان للمشاركة في القمم التي دعا إليها، والغرض واحد، هو توحيد الكلمة، والتوافق على رؤية تمثل الصف الواحد.
ولعل شديد الأسف والاستغراب أن الدولة الجارة إيران جائرة على دول القمم الثلاث، مع أن الرد المأمول منها بعد الخطوات الأميركية السياسية - الاقتصادية العقابية والإجرائية العسكرية المحتملة، كان اختراق هذه الخطوات بفعل محمود تجاه دول الأمتيْن العربية والإسلامية، كأن - بدل الذي سمعناه من تبريرات وتهديدات واقتراحات، وبالذات الاستعداد لعقد معاهدات عدم اعتداء مع دول الجوار الخليجي العربي - أصدرت بياناً يستبق انعقاد القمة الإسلامية، وفيه من محاسن الكلام وصدق النوايا والاعتذار عن أي أذى لحق بهذا الجار أو ذاك، والتأكيد على أن الأمة الإسلامية تحتاج إلى تضافر قوى الجميع؛ لكانت بذلك لقيت من الترحيب الشعبي والرسمي ما يبعث الطمأنينة في النفوس، ويجعل الحل الحربي مسألة مرفوضة من الجميع.
لكن الذي سمعناه، أي معاهدة عدم اعتداء، كان من نوع الاقتراحات التي يستهين طارحها بعقول السامعين، ذلك أن مثل هذه المعاهدة تتم عادة بين طرفيْن يناصب بعضهما بعضاً العدوان، ويمارسان في سبيل ذلك أعمالاً عدوانية. لكن كيف ستتم مثل هذه المعاهدة إذا كانت إيران، ممثَّلة بحرسها الثوري وأطيافها الحزبية والميليشياوية الموجودة في عدة بلاد عربية، هي المعادية، وأحياناً المعتدية، فيما الطرف الآخر، ودول الخليج بالذات، هي المعتدى عليها.
ويبقى أنه مثلما أن انعقاد القمم الثلاث كان خطوة استثنائية، فإن أجواءها الروحية والأخوية كانت أيضاً استثنائية. وأما الذي انتهت إليه من رؤى، وبالذات ما يتعلق بالتهدئة بدل المواجهة، وبحُسن الجوار بدل التطاول، وبالحرص على وحدة الصف بدل التفرقة، فإنه يُحسب للملك سلمان، واختياره بالذات انعقاد

القمم الثلاث وبالتتابع في رحاب مكة المكرمة. ففي مثل هذه الأجواء، يستحضر القادة المسلمون من كتابهم وسيرة نبيهم وأحاديث الصحابة والفقهاء الذين يعتز بهم تراثهم، ما من شأنه صفاء النوايا والتمسك بالثوابت، وهذا أوجزه في القمم الثلاث الملك سلمان بن عبد العزيز بالتأكيد على مركزية القضية الفلسطينية بالنسبة لأمة المليار ونصف المليار مسلم، رافضاً أمام الجمع الإسلامي المشارك أي إجراءات من شأنها المساس بالوضع التاريخي والقانوني للقدس الشريف، وهو موقف التف حوله القادة المشاركون الذين ثبَّتوا في بيانهم رفْض وإدانة أي قرار غير قانوني وغير مسؤول يعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، داعين الدول التي في المدينة المقدسة إلى التراجع عن هذه الخطوة. وهذا الموقف قد يربك بعض مراكز القرار في إدارة الرئيس ترمب، إلا أنه سيقابَل باحترام أكثرية المجتمع الدولي الذين رأوا في القمم الثلاث ما يمكن اعتباره استفتاء للإرادة العربية - الإسلامية التي تضع حداً لجموح الإدارة الأميركية وبعض القوى الكبرى.
من هنا، بات واضحاً التقاطع في الرؤى بالنسبة إلى الموضوع الفلسطيني. وباتت رؤية القمة الإسلامية التي تتبادل التناغم مع القمة الخليجية والقمة العربية الاستثنائية أشمل تحديداً في موضوع التصدي للإرهاب، ولإقناع النظام الإيراني بأن مواكبته لهذا الجمع الإسلامي، وفي مكة المكرمة، أكثر سلامة له وأكثر احتراماً من سياسة الإيذاء التي ينتهجها في حق دول الجوار.

في أي حال، لا تزال هنالك فرصة أمام إيران بأمل أن يقرأ نظامها الأمور بغير قراءاته السالفة. وإذا أجيز الافتراض، فإن تعديلاً جذرياً في نظرة هذا النظام إلى كل من عمقه العراقي وعمقه اللبناني، بمعنى أن يبدأ معهما تعامُل الدولة مع الدولة، واعتبار الجانب الميليشياوي بمختلف تسمياته صفحة من المصلحة طيها، من شأنه أن يجعل هاتيْن الدولتيْن مؤهلتيْن للقيام بدور يجمع بين الترويض والتطمين، ويدفع بالنظام الإيراني إلى أن يقرر التغريد مع الدول الإسلامية، عِوَض إبراز الأنياب بين تحرش وآخر للانقضاض على دول من وراء حدوده وحدودها. فالدولتان على وفاق بالإكراه إلى حين مع النظام الإيراني، وفي الوقت نفسه حريصتان على العلاقة المستديمة مع السعودية وبقية دول مجلس التعاون الخليجي التي، وبدافع حُسْن النية، لا بد تشجع مثل هذا الدور.
هل يأخذ النظام الثوري في إيران بمثل هذه الخطوة التي تثمر وصفة ربما تشفي علة تَحرشه بدول الجوار وغيرها؟ ولماذا لا يأخذ بها ما دام مسلماً، وما دام الرسول صلِّى الله عليه وسلَّم قبْل أن ينتقل إلى رحاب رب العالمين ترك في إرثه الكريم لبني أمته، وبالذات لمَن هم بطباع إخواننا الإيرانيين، من النصح ما يهدي إلى السلامة؟ أليس قوله «مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره» وصفة تشفي من علة العلل التي من أجْلها وبسببها كانت القمم الثلاث في رحاب مكة المكرمة؟