آخر خبر

ترامب يشيد بماي... ويرجّح إقرار اتفاق "بريكزيت"

قيادات لبنان تندّد بالاعتداء الدموي في طرابلس... وواشنطن تؤكد وقوفها الى جانب مؤسّساته الأمنية

&نبيل السهلي&

تعوّد الفلسطينيون أن يظنوا أنفسهم متفاهمين لمجرد أن أصلهم واحد، كما تعوّدوا أن ينسبوا بعضهم كلا إلى بلد أو مجموعة أتى منها، فهذا فلسطيني سوري، لبناني، عراقي، أردني، وذاك ضفاوي، غزاوي. ولا عجب في أن تطبّع الفلسطيني بطباع مجتمعات دول اللجوء، أو اندماجه فيها، أنتج إيجابيات وسلبيات، سببت في معظم الأحيان إساءة فهمه للمجموعات الفلسطينية الأخرى، من دون إغفال أن ضعف محاولات التواصل، فاقم المأساة. ولعل الكثير من المتعلمين والمبدعين الفلسطينيين، على رغم الافتخار الجماعي بهم، عجزوا عن سدّ الفجوات، كونهم يشكلون حالات فردية ولا مصبّ جماعياً لها، وعلى اعتبار أن الرقي العلمي لم يترافق مع نضوج في الثقافة المجتمعية.


الحالة الاجتماعية الرتيبة، تنعكس على السياسي والأخلاقي. فقبل فترة، اتهم البعض نواب "القائمة العربية المشتركة" بالتهريج، لأنهم أقاموا الأذان داخل الكنيست رداً على مشروع قانون إسرائيلي من شأنه منع استخدام مكبرات الصوت لرفع الأذان في مساجد القدس والأراضي المحتلة العام 1948. هذا ليس كل شيء، فالبعض الآخر من الفلسطينيين، اختلطت عليهم الأمور، وذهبوا إلى تعميم مفاده أن جميع فلسطينيي الـ 48 متعايشون مع المحتل وولاؤهم له؛ وهو ما يفسر أن معظم الادعاءات السابقة، لم تكن وليدة لحظتها، بل نتجت عن قلة اطلاع على وسائلهم النضالية للحفاظ على وجودهم في الداخل المحتل، وهم سكانه الأصليون. حادثة أخرى تتكرر منذ سنوات، إذ يتـهم البعض فلسطينيي سورية بأنهم "رفسوا النعمة" وخانوا مخيماتهم ومن احتضنهم وأعطاهم حقوق المواطنة، لمجرد أنهم نزحوا عن البلاد هرباً من القصف والجوع وسوء المعيشة، فيما اتهم بعض آخر من صمدوا داخل تلك المخيمات بـ "الإرهاب والعمالة للخارج"، فلم يسلم من التهمة أي من المحاصرين أو الهاربين. هي حقائق لفلسطينيين قالوا هذا الكلام الظالم عن فلسطينيين، وكأنهم ملائكة قررت معاقبة الشياطين، أو أن خريجي القانون الدولي لم يرغبوا في درس الأوضاع القانونية والإنسانية للعالقين في الحرب، فقرروا استثناءهم باستنتاجات غريبة.

وعلى رغم كون الدم الفلسطيني مقدسا أينما نزف، إلا أن جزءاً فلسطينياً يسخّف المأساة الفلسطينية في سورية، ويعتبرها شيئاً لا يذكر أمام مآس قديمة، في سياق مقارنات ساذجة مع مجازر تل الزعتر وحرب المخيمات أو مع حروب غزة، وكأن الدم يصلح للمقارنة بنفسه. حقيقة الأمر، أن ما يهم أفراد هذه الفئات، أن يعبروا بساديّة فاقعة عما يعتبرونه قراءة صحيحة للواقع. وحتى لا يغفل أحد أمراً قاسياً، تجدر الإشارة إلى أنه في أوائل الألفية الثانية، كان لزاماً على مئات العائلات الفلسطينية الهرب من بطش الحرب في العراق، والمبيت في ليالي الصقيع والرمضاء داخل مخيمات صحراوية على الحدود مع سورية والأردن، حاملة معها ألم فقد فلذات أكبادها. غير أن معظمنا لم يستشعر حجم المصائب تلك، وظلّ التقصير تجاه الأخوة مستمراً، باستثناء بعض المساعدات الخجولة، إلى أن هاجر معظم هؤلاء، فيما عاد البعض الآخر من حيث أتى، من دون المطالبة بحمايته أو على الأقل تسجيل موقف شعبي يواسي الجراح.

ينتمي الفلسطيني إلى أكثر من هوية ووطن. ولا شيء في السياق التاريخي والمنطقي يمنع ذلك، لكنها جدلية يتوجب توضيحها للفئات القاعدية حتى تتقبلها. في سالف الزمان، تعرض الفلسطينيون في لبنان لسلسلة من المجازر والنكسات وخيبات الأمل، لم ترافقها وقفات جادّة من فئات فلسطينية واسعة. ولعلها حال الخذلان ذاتها التي يشعر بها الفلسطيني في الضفة وغزة، ليكتشف من يرغب في البحث والتحري، أنه مقصر مع "الأكثرية اللي مش طايقين البقية"، وهكذا إلى ما لا نهاية. شعبوياً، تنظر شرائح واسعة من المجموعات الفلسطينية في البلدان العربية بعين "الحسد" إلى مجموعات الفلسطينيين في أوروبا والأميركيتين، فيما تنظر إليها فئات من هؤلاء بعين الازدراء، ليعود الفرقاء ويستذكروا بعضهم في المناسبات الوطنية من باب الديكور التجميلي، والافتخار بالأصول العريقة لأبناء الوطن المنتشرين.

النخب الفلسطينية المثقفة في الدول العربية، وكذلك نواة المجموعات المهاجرة تغض الطرف عن إمكان التقارب، بدلاً من لعب دور البطولات الفردية. ويعيق تلك الخطوة تماهي معظم تلك النخب مع منظومات ومحاور سياسية تدخل في لعبة المصالح الإقليمية والدولية، فضلاً عن غرور أفراد منها بتجاربهم الشخصية وانعزالهم عن التفاعل الاجتماعي.

وللأسف، لم تعتد مجموعة فلسطينية على إنصاف التجارب النضالية لمجموعة أخرى، أو على الأقل تأسيس إدراك صحيح لحالتها، ينوب عن القراءة النمطية التي صنعتها حالات شاذة تفرض على الفلسطينيين دائما. ذلك أنه لا يحق لأي مجموعة تجاهل تجربة مجموعة أخرى، أو التماثل معها أو الاقتداء بها. ومن غير الصائب طبعاً، إضفاء درجة من التكبر على جراح فئة فلسطينية أثناء تقييم تجاربها، إذ إن نضال كل مجموعة وقراءة حالتها وواقعها، لا يتطابق مع غيرها في سياقات اجتماعية وسياسية كثيرة. ويفترض أن تكمل النضالات بعضها بدلاً من التناحر والتضادّ. واللافت أن قلّة قليلة تحاول تفهم الجوانب القانونية والتاريخية والاجتماعية للفلسطيني الآخر في مكان لجوئه، أو داخل أرضه المحتلة قبل أن تبني أي تصور عنه.

ربما بات الفلسطينيون غير قادرين أن يكونوا شعباً واحداً بالمعنى الحقيقي، قبل تنظيم مئات الندوات واللقاءات الأكاديمية والشعبية للإجابة عن سؤال الهوية: من هو الفلسطيني؟!، ففي معظم المناسبات، ينتمي هذا الفلسطيني إلى أكثر من هوية ووطن. ولا شيء في السياق التاريخي والمنطقي يمنع ذلك، لكنها جدلية يتوجب توضيحها للفئات القاعدية كي تتقبلها. كما يحتاج مفهوم الهوية برنامجاً أكاديمياً يمنع الذوبان، ويحدد مساراً اجتماعياً واضحاً، وإثبات أن الأمم لم يؤسسها عنصر بشري واحد.

لا جدوى لدعوات التحرير بلا انسجام شعبي. أما أزمة القيادة، وفقدان التعددية الحزبية السويّة، وكذلك معضلة غياب البرنامج الوطني، وقضية تحديد الأنصار الفاعلين والخصوم، فهي مشاكل يختلف عليها الفلسطينيون، على رغم معرفتهم بضرورة حلها، وهي تحتاج معالجة اجتماعية قبل السياسية. الجدلية المهمة، أن كثيراً من المنظرين للقضايا العادلة، أسوأ من أعداء القضايا ويلزم استبدالهم، ما يحتم وضع برامج تأهيل للقادة، بدلاً من الدوران في حلقة مفرغة. فضلا عن ذلك، إن وجود عدد كبير من الأشخاص غير المناسبين في مفاصل العمل، يحتم ضرورة إقصائهم، لاسيما وأن معظمهم غير مؤهلين علمياً ويحاولون فرض أنفسهم بالترغيب والترهيب.

يؤكد باحثون فلسطينيون فرضية تراجع الحالة العامة للقضية، وهذا ليس اعترافاً تشاؤمياً، بل واقعي ويمثل خطوة في الطريق الصحيح نحو الحل، ترفده دراسات تؤكد أن المزاج الاجتماعي العام للشعب ليس صائباً دائماً، بل يحتاج إلى تقويم حتى يكون أكثر نضجاً. كل ما سلف هو محاولة لكسر الجليد ودعوة للمعالجة في سياق اجتماعي مواز للسياسي، ولا يقل أهمية عنه. فلا جدوى لدعوات التحرير بلا انسجام شعبي وتحرر فكري. ولا يصح في هذا السياق تحميل المسؤولية كاملة للمحتل والأنظمة العربية.