&&حسن أبوطالب

&

صحافة المستقبل أحد التعبيرات الآخذة فى الانتشار. وهدفها توقع شكل مهنة الصحافة فى السنوات المقبلة ومدى تأثير التطورات التكنولوجية المتسارعة فى عالم الاتصال سواء على الصحافى ذاته أو على القارئ، أى المتلقى للقصص الاخبارية والمقالات والمنتجات الصحفية بشكل عام. وفى هذا السياق تُطرح دائما أفكار جيدة، بعضها خضع لاختبارات محدودة مثل توظيف تقنيات الواقع المعزز من قبل بعض المؤسسات الصحفية العالمية فى مواقعها الالكترونية وربطها بالنسخ الورقية.

&

وبعضها الآخر جرت تجربته وبات له تقاليد معروفة مثل الصحافة الاستقصائية او ما يعرف بصحافة العمق والتحليل، وبعضها الآخر تجرى تجربته فى صور أولية ولم تتجمع بعد نتائج يمكن التعويل عليها مثل صحافة الدرون التى تعنى توصيل الشكل الجديد للخبر الى مستهلكيه المشتركين فى تلك الخدمة، وصحافة الروبوتات حيث تقوم «روبوتات» بصياغة قصص خبرية معلوماتية. ومن قبل صحافة البيانات التى يعتبرها البعض جوهر صحافة المستقبل.

وفى هذين السياقيْن يبرز اتفاق على أن شكل الصحافة وطريقة انتاجها سوف تختلف فى غضون العقد المقبل، وأن التحدى الرئيس للمؤسسات الصحفية والصحفيين أنفسهم يكمن فى الاستعداد لهذه المرحلة من حيث نمط الإدارة والملكية. وفى كل الأحوال ثمة حاجة الى الإبداع ومتابعة تجارب الآخرين والاستفادة منها قدر الإمكان.

وهكذا، فالصحافة كمهنة لن تختفى ولكنه قواعدها ستتغير جذريا، وطريقة إنتاجها لن تكون مثل الذى نعيشه الآن، وفى الفترة القصيرة الماضية كان الجدل الشائع يتعلق بتأثير الانترنت ومنصات التواصل الاجتماعى على طبيعة المهنة وليس ببقائها من عدمه، ومن ثم ظهر ما يعرف بالصحافة الإلكترونية، أى المواقع الإخبارية التى تنشئها الصحف المعروفة بحيث تجمع بين النشر الورقى والنشر عبر شبكة الانترنت، أو مؤسسات صحفية تنشأ لهذا الغرض تحديدا ولا تهتم بوجود نسخة ورقية.

وارتبط بذلك ما عرف بصحافة المواطن والتى تعنى بوجود دور للقارئ عبر التفاعل مع الأحداث الجارية سواء القومية أو المحلية أو حتى الذاتية ونشرها كقصة اخبارية او كتعليق او كمقال رأى فى حسابه الشخصى الذى يجذب عددا من المتابعين. والسائد تمثل فى مرونة الصحف الورقية والتكيف مع هذه الاتجاهات الجديدة والعمل على الاستفادة منها.

وتوظيفها فى جذب المزيد من القراء. غير أن الأمر لم يخل من تأثيرات عكسية تمثلت تحديدا فى تراجع عائدات الإعلانات الورقية، وعدم قدرة الاعلانات الالكترونية فى تغطية حجم التراجع فى الإعلانات المطبوعة، وهيمنة المنصات الكبرى فى عالم الاتصال لاسيما فيسبوك وجوجل على الإعلانات ومنحها نسبا هزيلة من العائدات للمواقع الصحفية الأم. فضلا عن انتشار الاخبار الكاذبة المضللة.

ونظرا لسرعة التطورات التقنية المرتبطة بشبكة الانترنت والذكاء الاصطناعى والجيل الخامس وانترنت الأشياء والجماد والاجهزة الذكية، وقلة موارد المؤسسات الصحفية العربية، وتراكم ضعفها فى مسايرة هذه التطورات التكنولوجية، وغياب رؤيتها الاستراتيجية بشأن المستقبل وانعدام التدريب على متطلبات هذه الثورات التكنولوجية، تتجسد الأزمة التى تعانيها غالبية المؤسسات الصحفية فى معظم المجتمعات، و لا ينجو منها سوى الذين يشاركون فى صنع هذه الثورات التقنية، وليس من بينهم العرب.

ولسنوات طويلة مضت تعددت الدراسات التى تنبأت أو لنقل توقعت وفق منهج علمى وأبحاث دقيقة بانزواء تدريجى للصحيفة المطبوعة، مقابل انتشار الصحافة الالكترونية وصحافة الموبايل، وكلاهما يمثلان الأساس الذى تبنى عليه التغيرات المستقبلية المتوقعة والتى نعيش ونتفاعل مع إرهاصاتها الأولى كمستخدمين وليس كصانعين لها من حيث البرامج والتطبيقات والمعدات والشبكات. وفى أفضل الأحوال يتم انتاج أحد التطبيقات عربيا لتجميع الاخبار، والتى تحاكى تطبيقا تم انتاجه فى إحدى الدول المتقدمة لا اكثر ولا اقل. ومع استمرار فجوة الإبداع الذاتى والبحث عن حلول وتجربة مسارات جديدة، وعدم توفير مبالغ كبيرة للاستثمار فى التقنيات الجديدة، وغياب الدراسات واستطلاعات الرأى حول توجهات القراء وتفضيلاتهم وطرق حصولهم على المعلومات والقصص الاخبارية، والارتكان الى دعم خارجى لبقاء الوضع الراهن على ما هو عليه، وغياب الشفافية المعلوماتية بشكل عام، ستظل أزمة الصحافة فى بلادنا، ولن تنفع فيها النصائح التى تعيد انتاج نفسها منذ أكثر من عقدين حول تطوير المحتوى، واستمرارية دور الدولة وإن بشكل جديد، والانفتاح على تجارب الآخرين والاستفادة منها، وتدريب الصحفيين والإعلاميين.

كل المعادلات والمدخلات الجديدة فى عالم التواصل والاعلام تدفع إلى العمل على مسارين فى آن واحد, الأول مسار المجتمع ذاته ورؤيته لنفسه فى إطار التحديات الموجودة بالفعل والمتصورة فى المستقبل القريب، ورؤيته لدور الصحافة بما يلائم التطورات التكنولوجية والاتجاهات التى لن يستطيع أى مجتمع الإفلات من نتائجها. وأهم القضايا التى تتطلب رؤية جديدة كليا تتعلق بنمط ملكية الدولة، وإبداع نمط إعلامى يراعى احتياجات الدولة والرأى العام بما لا يطغى طرف على آخر، والخروج من أطر الهيمنة وتوحيد الرؤية. أما المسار الثانى فيتعلق بالصحف ذاتها، العامة والخاصة معا، وإعادة هيكلة أسلوب العمل جذريا، والربط المباشر بين التحرير والإدارة والتوزيع والتسويق والإعلانات، والنقاش الداخلى حول متطلبات المرحلة المقبلة، والتوصل إلى رؤية جديدة يتوافق عليها العاملون فى المؤسسة الصحفية، والحوار مع الدولة من أجل وضع تشريعات جديدة تناسب الجديد القادم، وإعداد العاملين فى المؤسسة سواء الصحفيون أو الإداريون لمنهج العمل الجديد، والاستثمار فى التدريب المتواصل، وإجراء البحوث المتعلقة بتفضيلات القراء المستهدفين وتوجهات الأجيال الجديدة فى الحصول على الاخبار والمعلومات، وإبداع السبل المناسبة لذلك.

المساران معا كفيلان بالحفاظ على الصحافة بمعناها العام، مع تطوير شامل لإنتاج المحتوى الصحفى. الأمر لن يتحقق بين يوم وليلة، سيتطلب بعضا من الوقت، المهم ان تتوافق الجماعة الصحفية مع الهيئات المعنية حول ما يجب عمله تشريعيا واقتصاديا. الأمر ليس عصيا، وإن كان سيتطلب تضحيات متبادلة لانقاذ المهنة. توافر الإرادة العامة سوف ينتج مخرجا ينقذ الجميع، والكاسب الاكبر هو الوطن ومصالحه العليا، المهم أن نبدأ لا أن تستمر الشكوى فى الفراغ.