& سليمان جودة

&

في كل المرات السابقة، كانت الولايات المتحدة تجرب كل الحلول الخطأ، وهي تتحرك في شتى الدول حول العالم، وكانت تصل إلى الحل الصحيح في نهاية الأمر، أو حتى لا تصل، ولكنها لم تكن تصل إليه إلا بعد أن تظل تجرب وتجرب، على طريقة الرجل الذي يظل يفكر ويفكر قبل أن يسلك الطريق الصواب، وقبل أن يهتدي إلى حيث يجب أن يسير!

ولو أن أحداً بحث عن حالة حاضرة أمامنا يتجسد فيها هذا المعنى على أفضل ما يكون، فلن يجد أفضل من الحالة الليبية نموذجاً صارخاً أمام العيون!

سوف يكتشف الباحث عن الحالة الأمثل بين الحالات من حولنا، أن واشنطن جربت منذ البداية بذل دعمها السياسي في صالح حكومة فايز السراج، باعتبارها حكومة ما يسمى «الوفاق الوطني»، أو باعتبارها الحكومة التي تحظى بشرعية الاعتراف من جانب المجتمع الدولي، وكانت الولايات المتحدة على رأس هذا المجتمع بالطبع، ولولا ذلك ما بقيت حكومة السراج تحكم في العاصمة طرابلس يوماً واحداً!
وكان الواضح أمام كل عين، أن اعتراف المجتمع الدولي بهذه الحكومة، التي قامت في الأساس على اتفاق الصخيرات المغربي الشهير، إنما هو اعتراف راجع إلى كونها حكومة تضم في داخلها جماعة «الإخوان» في ليبيا، أو تضم تيار الإسلام السياسي بوجه عام!
والغالب أن أحداً لم يكن يمانع في أن تحظى حكومة السراج بدعم المجتمع الدولي، أو بدعم الإدارة الأميركية ذاتها، إذا ما كانت بالفعل حكومة قادرة على جمع شمل المجتمع الليبي، وإذا ما كان «الإخوان» الذين يحتمون بها، ويوجدون تحت مظلتها، ويلبسون قبعتها، مستعدين للاعتراف صراحة على الملأ بأنهم لا يؤمنون بالعنف، ولا يمارسونه، ولا يحرضون عليه، وبأنهم يحترمون مبادئ الدولة الوطنية، وفي مقدمتها دستور البلاد المدني، وقانونها، ووحدتها!
ولكن شيئاً من هذا لم يحدث؛ لأن حكومة السراج ما كادت تدخل مؤخراً في خلاف مع الجيش الوطني الليبي، الذي يقوده المشير خليفة حفتر، في اتجاه تطهير البلاد من أهل الشر، حتى تبين للجميع أن لها جيشاً تحتفظ به في العاصمة، وأنها توظفه في مواجهة جيش البلاد الوطني، وأن هذا الجيش الذي تحتفظ به، ليس جيشاً نظامياً بالمعنى المفهوم للجيوش، ولكنه عبارة عن ميليشيات متفرقة تحصل على سلاحها خفية عن العيون تارة، وعلناً تارة أخرى!
وفي الدساتير المعاصرة للدول، نص دستوري ثابت لا يكاد يتغير من بلد إلى بلد، ولا من دستور إلى دستور، وهو نص يقول بأن الدولة، أي دولة، هي وحدها التي تحتكر على أرضها حق امتلاك السلاح، وحق استخدامه، وأن أي جهة أخرى في الدولة لا يجوز أن تمتلك سلاحاً، ولا أن تستخدمه، ولا أن تنافس الدولة في امتلاكه واستخدامه، ومفهوم أن أي دولة لا تحتكر هذا الحق لمجرد الرغبة في احتكاره، وإنما لإقرار الأمن على أرضها، وحماية حدودها، وصون استقرارها، وصولاً إلى مرحلة التأسيس لتطبيق قواعد العدالة بين مواطنيها جميعاً، دون تفرقة، ودون استثناء!
وقد كانت المفارقة القائمة في ليبيا، ولا تزال، أن الجيش الوطني الليبي، ممنوع من الحصول على السلاح الذي يستطيع به الحفاظ على أركان الدولة الوطنية، وحماية حدودها، ومنع الخارجين على القانون من تهديد مواطنيها في أمور حياتهم اليومية!

هو ممنوع من ذلك بقرار من مجلس الأمن في الأمم المتحدة في نيويورك، رغم أن الأمم المتحدة نفسها هي التي تمنح حكومة السراج شرعيتها، وتبعث إليها مبعوثاً أممياً من وراء مبعوث أممي، بهدف الوصول إلى حل سياسي يحمل البلاد إلى طريق المستقبل!
أما المبعوث الأممي الحالي غسان سلامة، فهو المبعوث الخامس من نوعه في مكانه، وأما الحل السياسي الذي يسعى إليه فليس من الواضح أن حلاً سياسياً للوضع في ليبيا سوف يتحقق على يديه، ولا على يد المبعوث القادم من بعده، ولو وصل العدد إلى مائة مبعوث، لا لشيء إلا لأن الكلام عن حل سياسي في ظل وضع يحظر على جيش البلاد الوطني، الحصول على حاجته من السلاح، هو كلام عن سراب، وهو انتظار لما لن يأتي، وهو نوع من الخداع لا أكثر!

وقد كنا أول من أمس على موعد مع قرار صدر عن مجلس الأمن بتجديد حظر السلاح على ليبيا، دون أن يشار في القرار المنشور إلى أن الحظر ليس على ليبيا في عمومها، كما قد يفهم القارئ العابر من الخبر، ولكنه حظر على الجيش الوطني وحده!
وربما كان هذا هو السبب الذي جعل بلجيكا وجنوب أفريقيا، اللتين تتمتعان بالعضوية غير الدائمة في المجلس، توافقان على القرار مع باقي أعضاء المجلس، ثم تعبّران على الفور عن أسفهما لاستمرار وصول الأسلحة إلى ليبيا بالبر والبحر!
وقد كان أسفهما تنقصه جملة أخرى، استكمالاً لحديثهما عن استمرار وصول السلاح إلى ليبيا بالبر والبحر، هذه الجملة هي أن استمرارية وصول السلاح إلى الأراضي والشواطئ الليبية، يتم لصالح جهات كثيرة، إلا أن تكون هذه الجهة هي الجيش!
وطوال أيام مضت، كان الجيش يُسقط طائرات من دون طيار فوق العاصمة طرابلس، وكان يعلن أن المعلومات الموثقة المتوافرة لديه تقول إن هذه الطائرات طائرات تركية، فكان وكأنه يدعو المجتمع الدولي إلى أن يتحرك في مواجهة الأتراك، الذين يمدون ميليشيات السراج بهذه الطائرات وبغيرها، ولم يكن أحد في الأمم المتحدة يتحرك، ولا كان أحد في مجتمعنا الدولي يهتم بأن يسأل تركيا ولو على سبيل الفضول، عن السبب الذي يدعوها إلى إرسال شحنات سلاح إلى شواطئ ليبيا!
وعندما يصدر قرار تجديد الحظر بالإجماع بين أعضاء المجلس الخمسة عشر، فمعنى هذا أن الولايات المتحدة التي تتمتع بالعضوية الدائمة، قد سلمت، ووافقت، وباركت، ثم معنى هذا أن حديثها عن رغبتها في حل سياسي في ليبيا، هو حديث غير جاد؛ لأن حلاً سياسياً من نوع ما تتحدث عنه، ويفتش عنه المبعوث الدولي، لا يمكن أن يخرج إلى العلن في ظل وضع تحصل فيه حكومة السراج بميليشياتها على ما تريده من سلاح، ولا يحصل الجيش الوطني في الوقت ذاته على ما يحتاجه من سلاح!
والفارق بين فعل «يريد»، وبين فعل «يحتاج» هنا، مفهوم تماماً، وأوضح من أن يكون في حاجة إلى شرح، أو إلى تفسير، أو إلى بيان!
السبيل إلى استقرار ليبيا يبدأ بنقل حظر الحصول على السلاح، من الجيش إلى الميليشيات، فهذه هي الخطوة الحقيقية الأولى في طريق طويل.