& عثمان ميرغني

&مع وصول مساعد وزير الخارجية الأميركي تيبور ناجي إلى الخرطوم، تتكثف الجهود لدفع عملية انتقال السلطة من المجلس العسكري إلى سلطة مدنية، ومنع انزلاق السودان إلى مرحلة من العنف والفوضى في ظل استمرار الفراغ السياسي، وتعطل كثير من جوانب الحياة، وتصاعد التوتر. فالمجتمع الدولي، وإن تعاطف مع الثورة السلمية، وتفاعل مع أخبار القمع والقتل، لا سيما بعد مذبحة فض الاعتصام، فهو يرى مخاطر جدية في انفلات الأمور في السودان، في ظل انتشار السلاح، ووجود جماعات قد تستغل أي فوضى لنقل نشاطاتها الإرهابية إلى هذا البلد.

المسؤول الأميركي وصل إلى الخرطوم متسلحاً بإرادة واضحة في واشنطن، داخل الإدارة والكونغرس، للضغط على المجلس العسكري، لوقف العنف ضد المدنيين، والإسراع بنقل السلطة إلى حكومة مدنية. كما أنه يصل غداة الإدانة القوية الصادرة من مجلس الأمن الدولي للعنف الذي استُخدم ضد المدنيين، والمطالبة باستئناف المفاوضات لنقل السلطة وحل الأزمة.

إلا أن المسؤول الأميركي يصل أيضاً في ظل جدل محتدم بين السودانيين منذ أن أعلن الموفد الإثيوبي الخاص المكلف من رئيس الوزراء آبي أحمد، أول من أمس، عن التوصل إلى اتفاق لاستئناف مفاوضات نقل السلطة، والتهيئة لذلك بموافقة «قوى الحرية والتغيير» على تعليق العصيان المدني، وقيام المجلس العسكري بالإفراج عن المعتقلين السياسيين؛ فقد انقسم السودانيون بين من يرى أن هذه الخطوات كانت ضرورية، ومن يقول إن رفع العصيان، والعودة للتفاوض، يُعدّ تفريطاً في دماء الشباب الذين غدروا في عملية فض الاعتصام.
الواقع أنه على الرغم من الألم الطاغي على الناس بعد فض الاعتصام، فإنه كان لا بد من خطوات في طريق نقل السلطة الذي لن يتم من دون ترتيبات، وتفاوض، ولو بشكل غير مباشر. والتحركات الدولية الراهنة تمثل فرصة تصبّ في صالح تحقيق المطالب التي رفعتها الثورة السودانية التي قدمت كثيراً من التضحيات والدماء منذ أن انطلقت في 19 ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
وكان كثير من الناس بدأوا يتساءلون منذ أيام: ماذا بعد الاعتصام؟ فقد كانوا يرون أنه حقق نجاحاً باهراً في أيامه الثلاثة الأولى، لكنهم يدركون في الوقت ذاته أنه لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية. فالاعتصام سلاح ذو حدين؛ يضغط على المجلس العسكري، لكنه يضغط أيضاً على الناس، ويؤثر على سير حياتهم في ظل ظروف أصلاً صعبة. هذا الأمر لم يكن غائباً بالتأكيد على قيادات «تجمع المهنيين» و«قوى الحرية والتغيير» عندما قررت تعليق العصيان تجاوباً مع الوساطة الإثيوبية. فهي بذلك تعطي الناس فسحة لترتيب أوضاعهم واستئناف حياتهم، كما تحصل على فرصة لالتقاط الأنفاس، وترتيب الصفوف، والتواصل مع القواعد، الذي تأثر نتيجة قطع المجلس العسكري خدمات الإنترنت عن الناس، التي لن تتأخر عودتها بالتأكيد نتيجة الضغوط الداخلية والخارجية المتصاعدة على المجلس.
في كل الأحوال، فإن القرار كان بتعليق الاعتصام وليس بوقفه نهائياً، مما يعني أن «قوى الحرية والتغيير» يمكنها الدعوة إليه مجدداً متى ما شعرت أن عملية نقل السلطة لا تسير كما ينبغي، وأن المجلس العسكري يماطل من جديد. ففي الوقت الراهن ولوقت وجيز قد تكون الضغوط الدولية سلاحاً أكثر فعالية من العصيان لإجبار المجلس العسكري على نقل السلطة إلى حكومة مدنية.
هناك بالطبع بين السودانيين مَن يتمسكون بأن الاعتصام كان ينبغي أن يستمر حتى تحقيق إسقاط المجلس العسكري، وهو أمر عكسته ردود غاضبة سجلها البعض على صفحة «تجمع المهنيين» في «فيسبوك»، كما جرى تداولها في مواقع التواصل الاجتماعي التي يكاد يغيب عنها صوت الداخل بسبب قطع

خدمة الإنترنت والتعتيم الذي فرضه المجلس العسكري منذ مذبحة فض الاعتصام. ومع التفهُّم التام لمشاعر الغضب والألم، فإن الحكمة السياسية تقتضي أحياناً تغيير التكتيكات وفقاً للمتغيرات، والضغط على العواطف لتحقيق الأهداف، واختصار معاناة الناس. فإذا كانت هناك فرصة الآن لبدء خطوات نقل السلطة، فلماذا لا تُنتهز ومن دون أي تفريط في الأهداف النهائية؟ وحتى إذا كان المجلس العسكري يراوغ فإن كشفه أمام العالم سيكون مكسباً سياسياً لأنه سيعطي «قوى الحرية والتغيير» المزيد من الدعم الدولي، وسيزيد في عزلة المجلس والضغوط عليه.
أضف إلى ذلك أنه سيعبِّئ الشارع أكثر بحيث تكون الخطوة المقبلة من «قوى الحرية والتغيير» أقوى، سواء كانت هذه الخطوة هي استئناف الإضراب والاعتصام، أم العودة إلى مظاهرات الشوارع، أم مزيجاً من كل ذلك.
بكل الحسابات، فإن تسلُّم «قوى الحرية والتغيير» لحكومة مدنية بصلاحيات كاملة، إضافة إلى أغلبية مطلقة في المجلس التشريعي، وأغلبية في مجلس السيادة ذي الصلاحيات التشريفية المحدودة، سيكون انتصاراً للثورة التي مُهرت بكثير من الدماء. وإذا كان المبعوث الإثيوبي قد أكد أن الأطراف اتفقت على أنه لا تراجع عمّا تم التوصل إليه من قبل، فإنه أوضح أن مسألة تشكيل مجلس السيادة تبقى مفتوحة لمناقشتها في المفاوضات عندما تُستأنف، علماً بأنها كانت العقدة الأصعب، لأن المجلس العسكري رفض كل المقترحات، متمسكاً بأنه يريد الأغلبية ورئاسة المجلس.
بغضّ النظر عن المفاوضات حول هذه النقطة، فإن هناك أمرين لا يمكن لـ«قوى الحرية والتغيير» تقديم تنازل فيهما، لأن كلفة التنازل ستكون باهظة جداً. الأول هو التحقيق المستقل بمشاركة أفريقية - دولية في مذبحة فضّ الاعتصام، ومحاسبة كل مَن اشترك فيها. فالناس، خصوصاً القوى الشبابية التي قدمت التضحيات الأكبر في هذه الثورة، لن يقبلوا بأي تخاذل أو تنازل في مطلب التحقيق والمحاسبة. فهناك من يعارض حتى استئناف المفاوضات مع المجلس العسكري قبل التحقيق والمحاسبة في المذبحة، لكن هؤلاء يمكن إقناعهم بأن أي تحقيق مستقل وشفاف لا بد أن يتم في ظل الحكومة المدنية، لأن أي تحقيق قبل ذلك سيواجَه بالتشكيك في نزاهته، ما دامت الأمور تحت سيطرة المجلس العسكري.

الأمر الثاني هو الإصرار على سحب المظاهر المسلحة من الشوارع، وإخراج قوات الدعم السريع (الجنجويد) من العاصمة، فأكثر ما يزعج الناس ويقلقهم الآن هو انتشار هذه القوات في الشوارع، لأنها أصبحت مرتبطة في أذهانهم بكل عمليات القتل والترهيب والقمع التي حدثت، واستمرار وجودها لن يكون مقبولاً لهم، وقد يقود إلى مواجهات لاحقاً، إذ إن أفراد هذه القوات غير منضبطين أصلاً، كونهم قوات غير نظامية، بينما الشباب مشحون بالغضب ضدهم لما لقيه على أيديهم، ما يعني أن الفتيل قابل للاشتعال من أي شرارة. أضف إلى ذلك أن وجود هذه القوات في العاصمة سيعني تهديداً للحكومة المدنية ذاتها، ويجعلها عرضة لضغوط أحاديث الانقلابات، ويرجّح ميزان القوة لصالح أعضاء المجلس العسكري الذين سينتقلون لمجلس السيادة المقترح بغض النظر عن كونه مجلساً «تشريفياً».
ويمكن لـ«قوى الحرية والتغيير» أن تطالب أيضاً بأن تكون المفاوضات وما ستتوصل إليه من اتفاقات بضمانات أفريقية - دولية، وبذلك تكون قد حققت أكبر مكاسب ممكنة من التحركات الدولية الراهنة، واختصرت كثيراً من المعاناة لتحقيق مطالب الثورة، فالمجلس العسكري في لحظة ضعف شديد منذ فض الاعتصام، و«قوى الحرية والتغيير» لو أضاعت الفرصة بالتعنت، وعدم استثمار التحركات الأفريقية والدولية، لخسرت جولة أخرى، وأطالت المعاناة في معركة نقل السودان إلى الحكم المدني الديمقراطي.

&