& عبد الرحمن شلقم

&

كل رئيس أميركي يمثل مدرسة بل مذهباً سياسياً له منهجه وأساليبه الداخلية والخارجية. النظام السياسي الأميركي أبوي بامتياز، لكنها أبوة الحزب وليس شخص الرئيس. الحزبان اللذان يتبادلان سدة الحكم كيانان قديمان لا ينازعهما كيان سياسي ثالث منذ أن ترسخت وحدة البلاد. لكل منهما توجهه العام، لكن تبقى المشتركات بينهما قائمة وأساسها الحفاظ على ريادة أميركا للعالم ورفاهية المواطن الأميركي في الداخل. الولايات المتحدة بحكم حجمها وامتداداتها الاقتصادية ووجودها العسكري في بقاع كثيرة من العالم عبر قواعدها العسكرية وقيادتها لحلف الناتو، يفرض عليها حسابات استراتيجية معقدة ويجعلها في تماس مع قوى دولية وفي صراع يتحرك بين السياسي والعسكري والتجاري.
عبر تاريخها الحديث؛ ترأست أميركا شخصيات في حلقات معينة من الزمن واجهت تحديات شديدة السخونة. الرئيس الجمهوري دوايت أيزنهاور الجنرال الذي تولى المرحلة الحاسمة من الحرب العالمية الثانية، قاد قوات الحلفاء من النورماندي إلى برلين، وخاض غمار الحرب الباردة مع الكتلة الشيوعية منذ صعوده لكرسي الرئاسة ودعم قيادة بريطانيا لحلف بغداد ثم حلف السنتو.

الرئيس الديمقراطي جون كيندي الشاب الهادئ المحب للحياة والسلام، واجه الاتحاد السوفياتي في معركة سياسية وعسكرية مرعبة فيما عرف بأزمة الصواريخ التي نصبها الاتحاد السوفياتي في كوبا. حبس العالم أنفاسه وهو يتابع العد التنازلي للصدام الأخطر في تاريخ البشرية بين العملاقين النوويين. كان كيندي حاسماً في مواجهة الزعيم السوفياتي المندفع نيكيتا خورتشوف الذي تراجع وسحب صواريخه من جزيرة كوبا الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، وحقق الشاب كيندي نصراً بلا حرب عسكرية.
الرئيس الجمهوري ريتشارد نيكسون من أكثر الرؤساء خبرة وحكمة سياسية، غاص في أعماق السياسة الأميركية لعقود، وكانت فترة حكمه حلقة النار في الحرب الباردة والمواجهة شبه المباشرة مع الكتلة الشرقية بزعامة الاتحاد السوفياتي، وكانت حرب فيتنام المستنقع الذي ترك كثيراً من الزبد حول شخصيته، لكنه أدرك أن للحروب أكثر من أداة ووسيلة، فذهب إلى بكين ليصافح الزعيم الصيني ماو تسي تونغ. وقع في حفرة الحسابات البسيطة الخاطئة، وتلك هي اللعنة التي ترافق السياسيين في كل الأزمنة، فضيحة التجسس على الحزب الديمقراطي المعروفة بفضيحة «ووتر غيت». غادر البيت الأبيض باسماً حزيناً مطروداً بلعنة السياسة وقوة القانون. بعد معارك سياسية محلية ودولية، وضع الرئيس ريتشارد نيكسون عصارة تجربته الطويلة في كتاب «نصر بلا حرب»، الذي يقول في خلاصته إن بإمكان الولايات المتحدة أن تحقق انتصارات سياسية استراتيجية دون أن ترسل جندياً إلى خارج أراضيها لخوض معارك عسكرية بعيدة عن أرض الوطن. السؤال: كيف يمكن تحقيق ذلك؟ جوابه باعتماد وسيلتين:
الأولى: تشويه سمعة البلد المستهدف وتعبئة الرأي العام الأميركي والدولي ضده، وتهييج الوسط الشعبي داخله بما يهزّ قوته وسيطرته السياسية والإدارية في الداخل وصورته في الخارج.
الثانية: حشد أكبر قدر ممكن من الجيوش والأساطيل الأميركية والاستعداد للحرب بحيث يدخل في عقل البلد المقصود أن الحرب واقعة لا محالة، وأن النصر على الولايات المتحدة بكل إمكاناتها العسكرية والاقتصادية والتقنية أمر مستحيل، عندئذ يستسلم الهدف ويتحقق النصر من دون حرب. وتحدث عن الصين كمارد نائم يجب ألا يتم إيقاظه، كما قال نابليون بونابرت.

رؤية الرئيس الأميركي المخضرم ريتشارد نيكسون أسست لمنهج سياسي لا يزال يفعل فعله داخل حلقات الفكر الاستراتيجي الأميركي. استطاع الرئيس الجمهوري الأميركي الأسبق رونالد ريغان أن يجعل الاتحاد السوفياتي يترنح في سباق تسلح طويل وواسع المضمار، وكان الزعيم الشاب غورباتشوف يرى أن الانفتاح وتوسعة هامش الحرية والشفافية هما القوة القادرة على إعادة إنتاج الإمبراطورية الشيوعية، لكن الكيان الشيوعي أصبح قابلاً للتفكك ثم الانهيار، وهكذا تحقق النصر الأميركي على خصمه الأكبر بلا حرب، وفق رؤية ريتشارد نيكسون. ماذا يفعل الرئيس الجمهوري اليوم دونالد ترمب؟ إنه يخوض معارك واسعة في شتى بقاع الأرض، يستعمل قوة متحركة متعددة الرؤوس والأسلحة؛ إعلامية وعسكرية وتجارية ونفسية. من فنزويلا إلى إيران والصين والهند وأوروبا والمكسيك وكندا وتركيا وروسيا. نظرية نيكسون لم تغِب وإن أضاف إليها ترمب تكتيكات جديدة بحكم بروز أسلحة جديدة لم تكن متوفرة في عهد نيكسون؛ مثل سطوة وسائل الإعلام الفضائية والاجتماعية وتغير التكوينات والشخوص السياسية التي تقود دول العالم وتراجع سطوة الآيديولوجيات في كثير من دول العالم وبروز الموجة الشعبوية التي أعطاها ترمب زخماً عالمياً.
مع الصين المارد الذي استيقظ، فتح ترمب جبهة المعركة التجارية؛ حيث الاقتصاد هو السلاح الذي يقتحم به المارد النووي مساحات واسعة في العالم، ومن بينها الولايات المتحدة ذاتها عبر الصادرات الضخمة والسندات التريليونية. رفع نسبة التعريفة الجمركية على الواردات الأميركية من الصين، وفي الوقت ذاته فتح باب المفاوضات معها، واضطرت الصين لأن تجنح للمساومات والتنازلات حفاظاً على سوقها الأميركية الضخمة. وحقق ترمب نصراً تجارياً بلا حرب على الأرض.
أما المكسيك، الدولة الجار التي قيل عنها إنها قريبة من أميركا وبعيدة عن الله، فلها أكثر من معركة مع أميركا؛ أهمها المهاجرون غير القانونيين وتجارة المخدرات، فقد خاض ترمب معارك متواصلة مع الحزب الديمقراطي من أجل بناء جدار شاهق بين البلدين والتجأ إلى حرب تجارية ساخنة معها بإلغاء الامتيازات التي كانت تقدمها أميركا في مجال التبادل التجاري مع المكسيك التي اضطرت إلى تعبئة قواتها للحد من الهجرة وتجارة المخدرات. أما فنزويلا، فقد رفع ترمب سقف الوعيد إلى درجة التهديد بالتدخل العسكري، واستخدم الإعلام وطابور المعارضة الداخلية والمعاناة التي يعيشها الملايين لتجييش الرأي العام المحلي والدولي ضد الرئيس مادورو المتحالف مع الصين وروسيا وإيران. ولم يوفر ترمب معاركه مع الهند، حيث راجع الامتيازات التي قدمتها لها الولايات المتحدة في مجال المساعدات والواردات. والعلاقات مع تركيا الحليفة للولايات المتحدة في «الناتو»، هي معركة نوعية فيها من التعقيد ما يستحق كثيراً من الحديث. تركيا اليوم تتذبذب بين القوتين الروسية والأميركية، لكن السياسة الترمبية لا مكان فيها لهوامش المناورة، فعندما قامت تركيا بشراء صواريخ «إس 400» الروسية، أوقفت أميركا بيع طائرات «إف 35» المتطورة لتركيا، ولم تتراجع عن دعمها قوات سوريا الديمقراطية التي تقاتل القوات التركية.

الحالة الإيرانية لها خصوصية في تشخيص التعقيدات والأعراض في العلاقات المركبة مع الولايات المتحدة. منذ الثورة الإيرانية لم تتوقف المواجهة بين البلدين، لكنها بعد وصول ترمب إلى سدة البيت الأبيض أخذت منحى لا تهدأ سخونته. انسحب ترمب من الاتفاق النووي الذي وقعته الدول الست مع إيران، ورفعت وتيرة العقوبات الشاملة ضدها إلى حد أربك وتيرة الحياة بكل نواحيها في دولة الملالي. التحركات الإيرانية العسكرية في الخليج العربي وتهديد حركة الملاحة دفعت أميركا إلى حشد قوة جوية وبحرية في المنطقة. ردود الفعل الإيرانية أوقعتها في «قيد المافيا»، حيث تقوم العصابة الإيطالية بربط ضحيتها بحبل في عنقه وتمده إلى ساقيه المرتفعتين ويشدُّ إلى يديه ويربط بقوة. يترك الضحية في مكان مهجور وكلما تحرك ضاق الحبل حول الرقبة إلى أن يموت.
هكذا يحقق ترمب انتصاراته بلا حرب، وفقاً لنظرية سابقه الجمهوري الرئيس ريتشارد نيكسون.