&سعيد عبد الرازق

«دائماً الصحافيون هم الضحية»... أصبحت مقولة شائعة في تركيا، بسبب الزيادة غير المسبوقة في عدد الصحافيين وراء القضبان في قضايا أغلبها لا تتعلق بعملهم الصحافي، وإنما غالباً ما تتمحور حول دعم الإرهاب والارتباط بمنظمة ما أو بأخرى.

فضلاً عن ذلك هناك مئات الصحافيين الذين فقدوا وظائفهم عقب محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في منتصف يوليو (تموز) عام 2016، أو من يتهمون «بإهانة الرئيس» بسبب تغريدات أو تدوينات على مواقع التواصل الاجتماعي، وصولاً إلى حالات العقاب الجسدي بسبب تعبير بعض الصحافيين عن آراء معارضة أو عملهم في وسائل إعلام لا تخضع لسيطرة الحكومة.

بدأت تركيا تعرف حوادث الاعتداء الجسدي على الصحافيين في السنوات الأخيرة منذ عام 2013 مع أحداث «جيزي بارك» التي بدأت كاعتراضات مناهضة للاعتداء على حديقة تاريخية في وسط إسطنبول وتطورت إلى احتجاجات على حكومة رئيس الوزراء في ذلك الوقت رجب طيب إردوغان، الذي أصبح رئيساً للجمهورية، في العام التالي وحتى الآن.

ثم شهد العام ذاته، وقبل وداعه بأيام، ما سمي بـ«تحقيقات الفساد والرشوة الكبرى» في 17 و25 ديسمبر (كانون الأول)، التي اتهم فيها وزراء وسياسيون ورجال أعمال وبيروقراطيون مقربون من الحكومة، واعتبرها إردوغان محاولة جديدة بعد «جيزي» للإطاحة بحكومته، وبعدها بدأت موجة من التضييق على وسائل الإعلام القريبة من حركة «الخدمة» التابعة للداعية فتح الله غولن مع تطور الخلافات بينه وبين إردوغان بعد أن كانا حليفين لسنوات طويلة، وعرفت الصحف ووسائل الإعلام عموماً أنماطا جديدة من التضييق تمتد من إرهاقها بالضرائب، إلى فرض الوصاية عليها أو الهجوم على مقراتها وصولاً إلى إغلاقها.

وفي فترة الانتخابات المحلية الأخيرة، التي تكبد فيها حزب العدالة والتنمية الحاكم خسائر موجعة بفقده مدناً كبرى في مقدمتها إسطنبول وأنقرة وإزمير، فضلاً عن أنطاليا ومرسين وغيرها، أطل من جديد شبح الاعتداء الجسدي على الصحافيين المعارضين للحكومة، وذلك بعد أن أبدى صحافيون مواقف صريحة في مساندة أكرم إمام أوغلو مرشح المعارضة في إسطنبول، الذي فاز في المرة الأولى ببلدية إسطنبول في الانتخابات المحلية التي أجريت في 31 مارس (آذار) الماضي، على مرشح حزب العدالة والتنمية الحاكم رئيس الوزراء السابق بن علي يلدريم.

- موجات الاعتداء

كان قرار اللجنة العليا للانتخابات بإلغاء نتيجة انتخاب رئيس البلدية بمثابة شرارة أشعلت الغضب في الشارع التركي، الذي رأى أن القرار جاء استجابة لضغوط الحزب الحاكم واعتبر بمثابة تجاوز لإرادة الناخبين، وفي الفترة التي أعقبت قرار اللجنة الذي صدر في 6 مايو (أيار) الماضي، وحتى جولة الإعادة التي أجريت في 23 يونيو (حزيران) الماضي، شهدت الساحة السياسية والإعلامية في تركيا نشاطاً يتجاوز نطاقه مسألة إعادة الانتخابات على رئاسة بلدية، مهما كانت أهميتها، إلى نقاش حول الديمقراطية في تركيا ومستقبلها.

في هذه الفترة ارتفع معدل التوتر بشكل كبير وعادت إلى شوارع تركيا مرة أخرى صورة الصحافيين المعتدى عليهم المضرجين في دمائهم في الشوارع، مع تحقيقات تنتهي غالباً إلى أن المتهمين بينهم أنصار للحزب الحاكم أو لحليفه، حزب الحركة القومية، وتنتهي التحقيقات أيضاً إلى نتيجة الإفراج عن المعتدين أو نسيان القضية وإغلاقها دون معاودة الإتيان على ذكرها.

كانت أبرز وقائع الاعتداء على الصحافيين في السنوات الأخيرة، الاعتداء في أكتوبر (تشرين الأول) 2015. قبل الانتخابات البرلمانية المبكرة التي جاءت بعد 4 أشهر من أول انتخابات يفقد فيها حزب العدالة والتنمية الحاكم الأغلبية منذ صعوده إلى الحكم، على الصحافي في صحيفة «حرييت» أحمد هاكان، الذي يعمل في الوقت نفسه مقدم برامج في قناة «سي إن تورك» التي كانت تنتمي مع الصحيفة إلى مجموعة «دوغان جروب» التي اشتهرت بمعارضة الحكومة، قبل أن تباع صحفها وقنواتها العام الماضي إلى مجموعة «دمير أورن» المملوكة لرجل أعمال قريب من الحكومة، ليتحول اتجاهها إلى دعم الحزب الحاكم بشكل تام، بما في ذلك تحول هاكان نفسه من صحافي معارض إلى صحافي موال بشدة للحكومة، كما ظهر من مقالاته وتوجه برنامجه، الذي يحمل اسم «منطقة محايدة» قبل جولة الإعادة في إسطنبول. وأظهرت التحقيقات وقتها أن من بين المعتدين اثنين من أعضاء الحزب الحاكم، لكن تم الإفراج عن جميع المتورطين في الاعتداء.

- استهداف ممنهج

اختفت هذه الحوادث، رغم مناخ التضييق على حرية الإعلام في تركيا بحسب المنظمات الدولية المعنية بالصحافة ومنظمات حقوق الإنسان، إلى أن أطلت بقوة وبمعدل أسرع قبل انتخابات الإعادة في إسطنبول بعد خسارة الحزب الحاكم فيها في الجولة الأولى. وشهدت هذه الفترة ظاهرة الاعتداء على الصحافيين بمضارب البيسبول أو بالضرب المبرح أو باستخدام آلات حادة وتعرض حياة بعضهم لخطر الموت.

بدأت الموجة الجديدة بالاعتداء على كاتب العمود في صحيفة «يني تشاغ» اليومية ياووز سليم دميرآتس، بمضارب البيسبول على يد مجهولين تعقبوه منذ خروجه من عمله في برنامج بإحدى القنوات المعارضة إلى منزله في أنقرة في 10 مايو الماضي بصحبة أحد زملائه وأصيب بجروح خطيرة في رأسه ووجهه وأنحاء جسمه وقبض على 6 أشخاص بعد بيان صدر عن جمعية الصحافيين الأتراك دعت فيه إلى تقديم الجناة إلى العدالة، وألقت باللوم في هذا الاعتداء الإجرامي، على أجواء الشقاق والتنازع التي خلقها حزب العدالة والتنمية التنمية الحاكم، فضلاً عن عدائه «الفج» لحرية التعبير واعتبارها جريمة، مؤكدة أن الاستهداف المستمر للصحافيين والصُحف من قبِل السياسيين الذين يجدون صعوبة في الإيمان بمبدأ حرية الصحافة والفكر والتعبير، يلعب دوراً رئيسياً في الهجمات العنيفة ضد الصحافيين والكتّاب والمبدعين.

المثير أن المتهمين الستة بالاعتداء على الصحافي التركي أفرج عنهم بعد احتجازهم لفترة وجيزة للتحقيق بدعوى أن «الصحافي لم يتعرض لخطر الموت»، وعلق المتحدث الرسمي باسم حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، فايق أوزتراك بأن الإفراج السريع عن المشتبه بهم هو مؤشر واضح جداً على أنهم كانوا محميين من قبِل السلطات التركية.

ولم يمض سوى 5 أيام على هذا الاعتداء، حتى وقع اعتداء شبيه على كاتب العمود في صحيفة «أكدينيز ييني يوزيل»، إدريس أوزول، خارج مكتب الصحيفة في أنطاليا (جنوب تركيا)، وقالت جمعية الصحافيين المعاصرين، إن أحد المعتدين عليه كان يعمل سائقاً لرئيس فرع حزب الحركة القومية، الحليف لحزب إردوغان في أنطاليا، تالو بيلجيلي، الذي هدد الصحافي قبل الاعتداء.

وكالعادة، احتجزت الشرطة التركية المعتدين لفترة وجيزة، قبل إطلاق سراحهم، قال أوزول «52 عاماً»: «لقد تعرضت للهجوم بسبب آرائي السياسية، هم يحاولون أن يخيفوا الناس».

وفي اليوم التالي للهجوم على أوزول، الذي وقع في 15 مايو، بعث المعهد الدولي للصحافة، إلى جانب 20 منظمة دولية أخرى تعمل لصالح حرية التعبير، برسالة مشتركة إلى إردوغان، قالوا فيها: «نود أن نطلب منكم إدانة هذه الهجمات بأقوى العبارات الممكنة ودعوة الشرطة والنظام القضائي إلى ضمان تقديم مرتكبي هذه الهجمات إلى العدالة».

وأضافوا: «في الوقت الذي تستعد فيه تركيا لإعادة الاقتراع على رئاسة بلدية إسطنبول في الانتخابات المتنازع عليها بشكل كبير، فإن الأسابيع المقبلة ستمثل اختباراً مهماً لديمقراطية البلاد، التي تواجه بالفعل تحدياً كبيراً من خلال سجن الصحافيين».

لكن بعد أقل من أسبوع على تلك الرسالة، تعرض رئيس تحرير موقع «جوناي خبر»، أرجين تشيفيك، للضرب المبرح في أنطاليا أيضاً على يد 3 مجهولين ألقي القبض عليهم لاحقاً قبل أن يطلق سراحهم أيضاً.

وفي 24 مايو، كان هاكان دنيزلي، مؤسس صحيفة «إيغمان» اليومية في أضنة (جنوب تركيا) ضحية لهجوم بالأسلحة البيضاء، وقبع في العناية المركزة، فيما تعرض كاتب العمود في موقع «أودا تي في»، صباح الدين أونكيبار، للضرب أثناء عودته إلى منزل في أنقرة لكتابته تقريراً يتعلق بانتخابات إسطنبول أشار فيه إلى تعرض أعضاء اللجنة العليا لمغريات من أجل إلغاء فوز إمام أوغلو برئاسة البلدية، وفي الواقعتين أطلق سراح المعتدين بعد احتجاز لفترة وجيزة.

وقال مجلس الصحافة التركي: «هذه الحوادث التي تستهدف حياة زملائنا الذين يمارسون الصحافة الناقدة تحدث بطريقة منظمة ومخطط لها مسبقاً. وتعطي أساليب المهاجمين انطباعاً بأنها موجهة من المصدر ذاته»، لافتاً إلى أن وسائل الإعلام التركية وصلت إلى حد الاختناق في ضوء الحملة الشرسة ضد حرية التعبير من جانب الحكومة.

- ممارسات قمعية

بحسب تقرير حول مراقبة وسائل الإعلام لعام 2018 في تركيا، باتت الممارسات القمعية ضد الصحافيين أمراً معتاداً، حيث حكم في العامين الماضيين على 7 صحافيين بالسجن لمدة تتراوح بين 5 سنوات و45 سنة، وعلى 64 آخرين بمجموع أحكام بالسجن لمدة تصل لأكثر من 480 سنة، كما حكم على 52 آخرين بالسجن لمدة تصل لأكثر 122 سنة على خلفية اتهامهم بدعم محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016.

وذكر التقرير أن الصحافيين يواجهون خطر فقدان وظائفهم إذا لم توافق الحكومة على تقاريرهم، فمنذ عام 2016، تم فصل المئات منهم أو إجبارهم على الاستقالة أو تركهم عاطلين عن العمل بعد إلغاء البرامج التي يعدونها أو إغلاق المنافذ الإعلامية والصحف التي يعملون بها. ووفقاً لبيانات نقابة الصحافيين الأتراك، فإنه تزامناً مع الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة في 3 مايو الماضي، يقبع في السجون التركية 142 صحافياً.

وفي مقال نشره معهد «غايتستون إنستيتيوت» الأميركي، أشار الصحافي التركي بوراك بكديل إلى تنامي ثقافة العنف السياسي في تركيا في ظل حكم حزب العدالة والتنمية ورئيسه رجب طيب إردوغان.

ولفت بكديل إلى أن الحوادث التي يواجهها الصحافيون المعارضون ليست مصادفة، ففي سبتمبر (أيلول) 2015، هاجمت مجموعة من الحزب الحاكم مقرات صحيفة «حرييت»، أوسع الصحف انتشاراً في تركيا، وكانت تابعة للمعارضة. حطم الحشد النوافذ بالعصي، والحجارة، مطلقين صيحات التكبير، كما لو كانوا في حرب دينية. في الواقع، ظن الحشد أنه كان يخوض حرباً مماثلة، لأنها كانت «صحيفة علمانية» منتقدة لإردوغان. ولفترة طويلة، شاهدت القوى الأمنية الحوادث بفريق وحيد من الشرطة. أنزل الحشد العلم عن «مجموعة دوغان» التي كانت تملك «حرييت» وأحرقته. وبعد مطالب متكررة، نُشر المزيد من عناصر الشرطة. كان نائب الحزب الحاكم عن مدينة إسطنبول رئيس فرع الشباب في الحزب عبد الرحيم بوينو كالين، ضمن الحشد. وقال عبر «تويتر»: «نتظاهر ضد الأخبار الكاذبة أمام (حرييت) ونحن ننشد آيات من القرآن لأجل شهدائنا». ما حصل أن مهاجمة صحيفة كان عملاً مقدساً عند هؤلاء. وبعد ذلك بشهر تعرض الكاتب في الصحيفة أحمد هاكان لاعتداء تسبب في كسر أنفه وعدد من ضلوعه. ثم تكرر الاعتداء على الصحيفة مرة أخرى. وقبل أشهر قليلة من هذه الحوادث، اتهم إردوغان مالك «حرييت»، رجل الأعمال البارز أيدن دوغان، بأنه «محب للانقلاب» واتهم الصحافيين بأنهم «دجالون».