محمد طيفوري&&

منذ عقود وعملية تأثير تطورات العصر الرقمي في الحياة التي نعيشها في تزايد مستمر، لدرجة أضحى معها نطاق إسناد توصيف الإلكتروني يتسع بشكل لافت للانتباه، حتى صرنا في وضع أشبه ما يكون بـ "الحصار الرقمي" للحياة المعاصرة؛ فما من نشاط أو خدمة أو مجال إلا وتجد فيه للإلكتروني نصيبا.
أدى ذلك إلى نشأة مفهوم "الثقافات الإلكترونية" Cybercultures للدلالة على تلك البيئة الإلكترونية التي تتلاقى فيها أشكال متنوعة من التكنولوجيات ووسائل الإعلام، من قبيل: ألعاب الفيديو والإنترنت والبريد الإلكتروني والصفحات التعريفية والدردشة على الإنترنت، مرورا بتكنولوجيات الاتصال الشخصي وتكنولوجيات الترفيه والمعلومات المحمولة، وصولا إلى التكنولوجيات الحيوية والطبية.. وغير ذلك.

لقد كانت للتطورات المتلاحقة التي شهدها "الفضاء الإلكتروني"، بعد إشاعة الهواتف المحمولة في بقاع العالم تقريبا، مع ما رافق ذلك من تطبيقات متنوعة في وسائطه المتعددة؛ كالمراقبة الإلكترونية وعقد الاجتماعات عن بُعد باستخدام الكاميرات وإسقاط عائق البُعد المكاني انعكاس على تحديد هذا المفهوم، قبل أن يتبلور مفهوم أوسع وأعم وأشمل هو "الثقافات الإلكترونية".
مع الإشارة هنا إلى أن استعمال صيغة المفرد غير وارد إطلاقا، فلا مجال للحديث في العالم الافتراضي عن "ثقافة إلكترونية" واحدة. بالنظر إلى أن الثقافة الإلكترونية أصبحت مطبعة ومطوعة للغاية، ومعدلة ومستأنسة في حيواتنا اليومية؛ ما يعني أنها في الواقع لن تكون إلا بصيغة الجمع؛ أي "ثقافات إلكترونية" كثيرة ومتنوعة.
يعد الكاتب الهندي المتخصص في الدراسات الثقافية، برامود نايار Pramod k Nayar؛ أن التعامل مع "الثقافات الإلكترونية" ينبغي أن يكون من منطلق اعتبارها امتدادا و"تضخيما" للعالم اليومي، وليس -كما هو شائع- مجرد عالم موازٍ. فهذا التشكيل ناتج من كثير من البنى والأدوات والأفكار والأيديولوجيات المتصاحبة. وتشتمل هذه الثقافات على وفرة في المواقع والتطبيقات؛ فتمتد من التطبيق إلى التعبئة، ومن الاقتصاد إلى السياسة، ومن الترفيه إلى الإدمان.

بهذا يؤكد نايار؛ أن الثقافة والتكنولوجيا ليستا منفصلتين، وإنما هما متصلتان. فحتى إن كانت الاعتبارات المادية المتعلقة بالربح والقوة هي ما يحرك أحيانا الثقافات الإلكترونية، فإنها تبقى مؤثرة في حياة الأفراد الواقعية. فالهاتف النقال، على سبيل المثال، تعدى كونه مجرد هاتف محمول، ليكون بمنزلة مفكرة شخصية وساعة ومؤشرا صحيا وجهاز ترفيه ورمزا للمكانة الاجتماعية. لذا يحتاج المصممون إلى التنبه لتلك القيم التي صارت مهمة وجوهرية في ثقافة ما، وأن يدمجوها فيه.
تبقى سمة التعددية ثابتة في الفضاء الإلكتروني، فإلى جانب الثقافات نجد تعددية أخرى على مستوى الهويات، كما يؤكد هذا الأكاديمي الهندي في كتابه "وسائل الإعلام الجديدة والثقافات الإلكترونية" 2013 new media and cybercultures. فالإنسان في هذا الفضاء له هويات متعددة، لا تجعله منتشرا وكأنه قيد التشكل من جديد، بقدر ما تجعل منه إنسانا متمددا غير قابل للحصر والتحديد.
إن الهويات في الفضاء الإلكتروني طيعة، كما لم تكن من قبل. فالهويات على الإنترنت والصفحات الرئيسة وهويات البريد الإلكتروني والأجساد غير مستقرة بطبعها. كما أن الانفصال بين التمثيل والجسد؛ الذي لا يزال مصدرا رئيسا للهوية في العالم الواقعي، هو بحكم التعريف لا نهائي في الفضاء الإلكتروني.

تقبل الهوية في هذه العوالم إخضاعها للعمليات كافة، فمنذ البداية يجد المرء نفسه حرا في الاختيار أو الإنكار أو التقليد، حتى تجاوز الهوية الجسدية والتفاعل مع العالم بهوية شخص آخر. بمعنى أنه أمام إمكانية اختيار هوية قد لا تكون لها علاقة بنوعه الاجتماعي أو عرقه في الحياة الواقعية، وبالتالي لعب أي دور يختارونه؛ لأنه من الصعب التثبت من الهوية المقدمة في الفضاء الإلكتروني.
يمكنه كذلك عرض أو بالأحرى استعراض الجسد الدميم في هيئة جميلة وجذابة في هذا الفضاء؛ فما أكثر البرامج التي تسمح للأفراد باختيار لون بشرتهم، وشعرهم وأعينهم حتى إمكانية تغيير شكلهم كليا. كما تقبل هذه الهوية الخضوع لتضخيم في الفضاء الإلكتروني بعمل عديد من الإضافات استنادا إلى عديد

من الخيارات المتاحة. بهذا توصف هذه الهوية المتحولة الطيعة غير المستقرة في الفضاء الإلكتروني بكونها "هوية سائلة".
تجمع الدراسات الثقافية على أن الثقافات الإلكترونية لا يمكن التعامل معها باعتبارها محض عوالم افتراضية منشأة باستخدام الكمبيوترات، ولكن باعتبارها أساسا تشكيلا مرتبطا بالمادي والواقعي، ومتجذرا فيه، ومتأثرا به ومؤثرا فيه.&
يظل هذا التشكيل نتاج مزيج مركب من البنى والأدوات والأنظمة، أي بين ما هو اقتصادي وقانوني وسياسي واجتماعي وثقافي، فالأفكار والأيديولوجيات تجمع الاقتصاد السياسي بالمعلومات والتمويل العالمي بالرأسمالية ومنطق السوق.. وهلم جرا، حتى تفرض التعامل مع هذه الثقافات على أنها مدمجة في العالم الواقعي والمادي ومتصلة به.
وهذا ما يؤكده بيير ليفي؛ حين يعتبر أن هذه الثقافات مرتبطة ارتباطا تكراريا بالعالم المادي الواقعي، ومتجذرة فيه ومشكّلة بفعله. فالعوالم الافتراضية وثقافات الإنترنت لا بد لها أن "تتصل" في نقطة ما بالأجساد المادية، والبنى الاجتماعية القائمة على العرق والنوع والجنس، والمعتقدات الثقافية وظروف الاقتصاد والسياسة.

يسعى العقلاء جاهدين إلى التحذير من مخاطر انغماس الإنسانية في العالم الافتراضي، لكن تلك المساعي ستبقى محدودة جدا في زمن نعيش فيه "حصار الرقمنة"، فأيا تكن الجهود قصد التقليل من تأثير الافتراضي على حيواتنا الواقعية لن تستطيع فصل الافتراضي عن الواقعي، لأنهما بكل بساطة بلغا مرحلة التماهي المطلقة أو الحلولية بلغة الصوفية.