ظلت الليرة التركية تسجل تراجعا مخيفا ومتدهورا مقابل العملات الأجنبية، خاصة الدولار، ما سبب أوضاعا متردية لمؤشرات الاقتصاد التركي وارتفاعا في معدلات التضخم. هذا الوضع يأتي في ظل ارتكاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الخطأ تلو الآخر على الصعيد الاقتصادي منذ عدة سنوات. فهو يريد السيطرة على صنع القرار الاقتصادي المتعارض، ليس فقط مع مصلحة الاقتصاد محليا، بل المتضارب أيضا مع سمعة البلاد على الساحة الدولية.

ولم يتوقف أردوغان طوال الفترة الماضية عن التدخل في البنك المركزي التركي، حيث تحول ذلك إلى تدخل سافر أربك الوضع الاقتصادي بصورة كبيرة. ولم يسمع رئيس تركيا نصائح حتى أولئك الذين يساندونه سياسيا، بضرورة الإبقاء على الحد الأدنى من الاستقلالية لهذا البنك، فالدولة لا يمكن أن تسيطر على كل القرارات التي تخص الاقتصاد، وهي الساعية إلى تنمية علاقات دولية على الصعيد الاقتصادي، فضلا عن أنها تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى حماية سمعتها الائتمانية.
كان متوقعا عزل أردوغان لمراد تشيتن كايا، حاكم البنك المركزي التركي. فالمناوشات بينهما انفجرت منذ زمن، وهذا الأخير احتفظ إلى آخر ساعة في مكتبه، بأحقيته في رسم السياسة المالية للبلاد وفق ما هو مفيد لها، وعلى أساس ما هو موجود على الساحة، فكان طبيعيا أن يرفض ضغوط أردوغان لخفض الفائدة. والكل يعرف أن الرئيس التركي لم يضع في اعتباره أن مثل هذه الخطوة ستؤدي إلى مزيد من التدهور المالي المحلي، فكل ما يهدف إليه هو الحصول على زخم شعبي على أساس وهمي، لأن اقتصاد البلاد لا يتحمل - ببساطة - خفض الفائدة، على الأقل في الوقت الراهن، ولا سيما في عز تراجع قيمة العملة الوطنية.

صحيح أن الاقتصاد التركي يشهد تباطؤا كبيرا، أدى إلى تراجع قيمة الليرة، وارتفاع معدلات التضخم والبطالة، لكن الصحيح أيضا، أن هذا الوضع لا يصحح بأخطاء. وتركيا - كما هو معروف - استفادت في السنوات القليلة الماضية من استقلالية البنك المركزي فيها، الأمر الذي زاد من مستوى الثقة العالمية باقتصاد البلاد، خصوصا من جانب الاتحاد الأوروبي، الذي يرتبط مع أنقرة باتفاقيات اقتصادية متعددة. والانكماش الذي يشهده اقتصاد تركيا منذ بداية العام الجاري، لا يمكن تغييره بخفض سعر الفائدة فقط. هناك كثير من العوامل غير متوافرة على الساحة، من أجل الحد من هذا الانكماش، وتحويله في مرحلة لاحقا إلى نمو. فمسار الاقتصاد هناك بات مضطربا بصورة مقلقة.

إصرار حاكم البنك المركزي المعزول على الإبقاء على مستويات الفائدة دون تغيير، يعود أساسا إلى دعم الليرة التي شهدت تدهورا شديدا مقابل العملات الرئيسة، وفي مقدمتها الدولار الأمريكي. لكن ما يهم أردوغان وأركان حكمه، هو تحريك الاقتصاد بصرف النظر عن أي تكاليف ستكبل هذا الاقتصاد لسنوات طويلة. بالطبع، أطلق مراد أويسال حاكم البنك المركزي الجديد، مجموعة من التصريحات النظرية لا العملية في أعقاب تعيينه في هذا المنصب، وفي مقدمتها "تطبيق السياسة المالية الرامية إلى تحقيق استقرار الأسعار". لكن هذا لا يمكن أن يتم في ظل تدخل مباشر من رئاسة الجمهورية، رغم اعتراض مسؤولين مخلصين لأردوغان على تدخلاته هذه.

وليس أمام تركيا، إلا أن تترك الأمور تمضي قدما من خلال استقلال "المركزي"، الذي سيحدد في النهاية القيمة الحقيقية للعملة، وغيرها من عوامل استقرار الاقتصاد، أي اقتصاد.
ويبدو واضحا، أن الرئاسة التركية لم تتعلم من عدد من الدول التي انهارت اقتصاداتها بفعل تدخلات خطيرة كهذه. لكن في النهاية، ما يهم أردوغان أكثر أن يحرك اقتصادا بصرف النظر عن أدوات هذا التحريك، صحية كانت أم مرضية.