& يحيى الأمير

الخلفية الثقافية والاجتماعية لكل دول المنطقة تشير بوضوح إلى أن نشوء الدولة الوطنية مثل عامل التحول الأكبر وعنصر الإنقاذ الأول لهذه الجغرافيا وحماها من أن تظل منطقة للصراع والتشرذم والتطرف والبداوة أيضا.

خلفيات ثقافية تشتمل على قيم ليس بإمكانها بناء سلام أو مستقبل أو ازدهار، بل إن كل هذه المفردات ليست أصلا في قاموسها، قيم قبلية وعنيفة أو دينية طائفية متشددة أو صحراوية متنقلة لا يمثل المكان بالنسبة لها قيمة لتهتم بإعماره وتنميته.

المنتج الحضاري السابق للدولة الوطنية الحديثة كان الإمبراطوريات التي أثبتت أنها محور للحروب الضخمة والطاحنة، وتقوم أساسا على أفكار وأهداف توسعية تجعل منها مشروع حرب مفتوحة مع مثيلاتها أو كيانا غاصبا محتلا مع كل الجغرافيا المحيطة به، وهذا جل ما شهدته مختلف الأقاليم في الشرق الأوسط إبان حقبة الإمبراطوريات.

لا تزال بعض الأطروحات في التنظير السياسي العربي تنتقد موقف بريطانيا بعد اتفاقية سايكس بيكو، وترى أنها أخلفت بوعدها بمنح العرب وطنا قوميا عربيا في منطقة سورية الكبرى، ولكن الواقع اليوم يقول إن ما حدث كان إيجابيا لمستقبل المنطقة، ومدخلا لتمكين ونضوج الدولة الوطنية من خلال نماذج مختلفة ومتنوعة.

تتخذ الدولة الوطنية من الجغرافيا أساسا أولا للكيان والهوية، وهو تحول ضخم من ثقافة البداوة القائمة على الترحال وانتفاء أي ارتباط بالمكان ليتحول إلى ركيزة أولى ومحورية. تنتفي في الدولة الوطنية عوامل الانتماء الواسعة العابرة للحدود، فالدولة الوطنية ليست دولة أبناء الملة الواحدة أو الطائفة الواحدة، وتنتفي كذلك عوامل الانتماء الضيقة أيضا، فالدولة الوطنية ليست دولة أبناء القبيلة الواحدة أو الإثنية الواحدة. وهو ما يجعل من الجغرافيا والجنسية والحدود محور الدولة ومحور الانتماء، ولكن ما القيم التي تدير الدولة الوطنية؟

الانتماء الثقافي والاجتماعي والامتداد التاريخي يمثل مصدر الإمداد الأول بالقيم العامة في الدولة الوطنية؛ قيم المجتمع تأتي من ثقافته ومعتقداته وتركيبته السيسيولوجية، ولكن المؤسسة والقانون هما اللذان يتوليان إدارة التدافع اليومي للناس المختلفين. يمثل الاختلاف شرطا أساسيا ومظهرا أصيلا في الدولة الوطنية الحديثة التي تقوم على التنوع، وكل الكيانات الأحادية ذات اللون العقائدي أو الاجتماعي الواحد ليست دولا وطنية ومصيرها غالبا ينتهي إلى صراع أو تآكل داخلي.

تدير مؤسسات الدولة نطاق الحريات والحقوق بما لا يؤدي لتحكم طرف في بقية الأطراف داخل المجتمع، وتكون الهيمنة للقانون والنظام، وهو ما يفرض مسحة علمانية ليبرالية حتمية في الدولة الوطنية (تعرضت هذه المفاهيم لمواجهة كبرى في المنطقة من تيارات اليسار والشيوعية والإسلام السياسي لأنها توجهات شمولية).

واقع الدولة الوطنية اليوم في المنطقة يواجه تهديدا واحدا مصدره الكيانات والجماعات الشمولية وذات الأهداف التي تقع خارج حدودها، وتلك الكيانات كما أنها تمثل خطرا على المنطقة فهي أيضا تعيش تهديدا داخليا سيفضي بها إلى التفكك أو الانقسام.

إيران مثلا دولة المذهب، وقضيتها ومشروعها يتجاوزان حدود الدولة، والمؤسسات يهيمن عليها الرأي الواحد، والحريات والحقوق لا يديرها القانون وإنما تدار بأحكام أحادية لا تمنح مساحة للتنوع ولا للاختلاف. وكل الدول التي تشترك في مشاريع خارج حدودها تقع في ما يمكن وصفه بنواقض الدولة الوطنية، النظام في قطر مثلا، تجربة صدام حسين في العراق مثلا، الاتحاد السوفييتي كأكبر مثال على انتهاء حقبة الدولة العقائدية التوسعية.

الدولة الوطنية في الخليج العربي هي الأحدث نسبيا مقارنة بغيرها في المنطقة، لكنها في الوقت ذاته هي الأكثر نضجا وتحضرا وانطلاقا نحو المستقبل، والأكثر شراكة وأهمية للعالم بأسره، ليس لأنها تمتلك النفط والغاز، بل لأنها تحمل استيعابا حقيقيا للدولة الوطنية المدنية.