يحيى الأمير

مئات الآلاف من الناس الذين يتدفقون على مختلف الفعاليات الترفيهية التي تشهدها كل مناطق المملكة، هم في الحقيقة يمثلون الجواب والرد الفعلي على كل عمليات التشويش التي تتعرض لها الهيئة وفعالياتها.

الشكل العام لهذا التشويش يتخذ شكل الناصح الخائف على المجتمع وعلى قيمه، وكأن ملايين الجماهير التي تحضر مختلف الفعاليات قادمون من خارج البلاد، أو أنهم بحاجة لمن يحافظ لهم على أعراضهم وقيمهم وأخلاقهم.

كل هذه الأفكار والتصرفات قادمة من زمن الوصاية القديم السابق الذي انتهى، يوم أن أخذت جماعات النصح والإنكار تتحدث باسم المجتمع وتنافح عن دينه وتحميه، ويوم أن كانت الجماعات الحزبية والحركية تتخذ من كل ذلك مادة لتأزيم العلاقة بين الدولة والمجتمع.

لقد أدى الإنكار والتشويش على اختيارات الأفراد والإنكار والتهييج على أي خطوة تقدمية تخطوها الدولة، أدى إلى إحداث شرخ في السلم الاجتماعي العام ولم يكن ذلك تلقائيا، بل كل مخطط له وتم استثماره وإدارته ودعمه من قبل الخصوم والمعادين.

لقد أدت مقاطعة النظام في قطر ومواجهة عناصره وخلاياه إلى قطع دابر تلك الفتنة اللعينة التي كان يخطط لها تحت راية الإنكار وحماية الدين، وإشاعة حالة السخط والتأفف في المجتمع وبناء صورة كاذبة ما لبثت أن تضاءلت أمام الصورة الحقيقية للشعب السعودي المتنوع الذي يريد أن يرى بلاده نموذجاً للتنوع والحريات وجودة الحياة تحت إدارة القانون والمؤسسات.

كل ما تشهده السعودية اليوم يمكن اعتباره متأخراً ومؤجلاً من أزمنة سابقة وجاء اليوم وقتها الفعلي وهي ليست الهدف الأساسي بحد ذاتها، الأهداف الكبرى المتحققة من الترفيه تتمثل أولا في الانعتاق من مرحلة اللون الواحد التي طالما هيمنت فيها مسحة التشدد والإنكار وتراجع الخيارات مما أثر حتى على علاقة السعوديين بوطنهم.

مثلا وقف الحفلات الغنائية في المملكة لم يكن مبررا على الإطلاق وهو سلوك يتنافى مع ثقافة وتنوع وحضارة هذه البلاد التي طالما كانت مصدرا للفنون والإبداع، وغياب الموسيقى عن الأماكن العامة كان في الواقع ظاهرة غير طبيعية على الإطلاق ولا تمت للواقع بصلة ولا علاقة لذلك المنع بالدين ولا بالالتزام وإنما كان علامة على سريان نفوذ ما لم يعد من الممكن قبوله، وعلى هذا تقاس قيادة المرأة السيارة وغيرها من المستجدات العظيمة والمحورية في الحياة السعودية.

استغل بعض المنكرين ما نشرته صحيفة الرياض تحت عنوان: (الشورى للترفيه: التزموا بهويتكم) ومع غرابة المطالبة إلا أنه لا يمكن حتى فلسفيا الحديث عن هوية الفنون وهوية الترفيه، الفنون عالمية لا هوية لها وإذا كان المقصود بالهوية أي الاهتمام بالفنون المحلية فمع عظيم الاهتمام القائم بها بين الهيئة ووزارة الثقافة، إلا أنني أشك في أن يكون ذلك هو الهدف لأن هذه الفنون المحلية طالما حوربت من قبل وتعرضت للإهمال والرفض والتفسيق والتبديع.

الترفيه أيضا علامة على حالة التنوع السعودي الكبير في فنونه الخاصة وفي استقباله وتفاعله مع الفنون العالمية من مختلف الثقافات والألوان وهذا ليس ادعاء ولا تقولا بل هو واقع يؤكده الإقبال الهائل على مختلف الفعاليات التي ظل الشارع محروما منها لعقود سابقة. لم يلتفت المنكرون وأهل التشويش إلى المسابقة الدولية الكبرى التي تقيمها الهيئة للمؤذنين في كل العالم الإسلامي ولا للمخالفات والجزاءات التي طالما أوقعتها الهيئة على تجاوزات بعض الفعاليات، كل هذا لا يعني لهم شيئا.

لقد وجدت الهيئة لتستمر، والخيارات اليومية المتنوعة هي أبرز مظاهر الحياة المدنية ولا يحق لأحد أن يجبر غيره على أمر ما أو يمنعه عن أمر ما، لأن ذلك شأن القانون والنظام.