& نديم قطيش

&

العنوان مستعار من عنوان مقال للكاتب عبد الرحمن الراشد، نشر في هذه الصحيفة منذ أكثر من شهرين. يومها لم تكن إيران قد أسقطت الطائرة الأميركية من دون طيار، من دون أن تتلقى رداً حازماً موعوداً من إدارة الرئيس دونالد ترمب. وما كانت طهران قد رفعت سقف تحديها للمجتمع الدولي، ونفذت وعيد المرشد علي خامنئي بمعاملة خصومه بالمثل، كما أثبت احتجاز قوات «الحرس الثوري» ناقلة ترفع العلم البريطاني، رداً على احتجاز بريطانيا ناقلة نفط إيرانية كانت تحمل نفطاً مهرباً للنظام السوري.
هذه الأنباء وغيرها، تلح على إعادة طرح سؤال الراشد في ضوء معطيين:
أولاً أن إيران تبدو بالمقياس المعنوي والدعائي والعملي، أكثر ثقة في المواجهة التي تخوضها مع العالم، وأكثر تحفزاً وتجرؤاً، بالاستناد إلى افتراض إيراني، ليس بلا أدلة، أن الغرب عامة وأميركا خاصة تريد فعل كل شيء لتجنب الحرب مع طهران.
ثانياً أن الغرب عامة وأميركا خاصة أكثر ارتباكاً في التعامل مع إيران، وأقل قدرة على ترجمة تفوقهما الاستراتيجي الحاسم إلى سياسات رادعة لإيران، وقادرة على إجراء تعديلات عميقة في سلوك نظامها السياسي وتوجهاته.
وما يزيد إلحاح «سؤال الغدر» أن ترمب لا يبدو صاحب استراتيجية متماسكة بشأن ما يريده من إيران، سوى المضي قدماً بما باتت استراتيجيته في عموم علاقاته الدولية، وهي سياسة «الضغط الأقصى»، القائمة بشكل رئيسي على العقوبات والإجراءات الحمائية والانعزالية، والانسحاب الأحادي من الاتفاقات المبرمة.
غير أن لا ضمانة أن نتائج سياسة «الضغط الأقصى» حيال إيران ستختلف عنها في فنزويلا أو الصين أو في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فسياسة الضغط الأقصى على الفلسطينيين فشلت فشلاً ذريعاً في جلبهم إلى طاولة «صفقة القرن»، وإسقاط المضمون السياسي من بنية التصور الفلسطيني للحل العادل.
ونجح نيكولاس مادورو، بمعايير الديكتاتوريين وليس بمعايير تقييم رفاهة الشعوب، في إسقاط مفاعيل الضغط «الترمبي» على بلاده، وحمى نظامه من السقوط. أما حيال الصين فتبدو استراتيجية الضغط الأقصى، في حال يرثى لها، وإن كان ترمب ينسب لها هبوط النمو الصيني إلى أدنى مستوياته في ثلاثة عقود.

الحقيقة أن سجل استراتيجية ترمب تجاه الصين مختلط في أحسن أحواله. فالتباطؤ الصيني سابق على الحرب التجارية بين العملاقين الاقتصاديين. أما أسبابه فتتراوح من تضخم فقاعة الديون الصينية التي تبلغ نحو 40 تريليون دولار، إلى تعقيدات اللحظة الانتقالية التي يمر بها الاقتصاد الصيني، من كون الصين «مصنع العالم» إلى اتجاهه ليصير اقتصاد خدمات وتكنولوجيا («هواوي»، و«علي بابا»... إلخ!)، وما يستتبع ذلك من تراجع في عدد الوظائف وبالتالي توزيع الأرباح وتقلص المداخيل، وتراجع القوة الشرائية الصينية.&
أضف إلى كل ذلك أن أي أثر لسياسة ترمب تجاه الصين له ما يوازيه وربما ما يفوقه داخل أميركا، كما تظهر حزم الحوافز المليارية التي اضطرت إدارة ترمب لتقديمها لدعم المزارعين الأميركيين، الذين ما عادت الصين راغبة في استيراد منتوجاتهم!
ما هي خيارات ترمب بشأن إيران؟
إذا كانت الحرب هي الاحتمال الأضعف حتى الآن، بسبب عدم رغبة ترمب وعدم قدرة إيران، فيتقدم خيارا المراوحة أو الاتفاق.
ولئن كان الاتفاق مع إيران هو الخيار الأكثر عقلانية، فإنه هو الخيار الأكثر خطورة بسبب طبيعة إدارة ترمب نفسها. مما لا شك فيه أن الحرب ليست في مصلحة دول المنطقة، لا سيما دول الخليج العربي؛ لكن الاتفاق السيئ، كما علمنا من التجربة مع إدارة باراك أوباما، يساوي في نتائجه السيئة نتائج الحرب. أما خطورة الاتفاق الآن فتكمن في رصيد ترمب نفسه، الذي يقارع كل الاتفاقات التي أقدم عليها أوباما، ثم يكتفي بتعديلات بسيطة عليها، مدعياً أنها أفضل بكثير من اتفاقات سلفه.

لشهور طويلة مثلاً، هاجم ترمب اتفاقية «نافتا» التجارية بين أميركا وكندا والمكسيك، وصولاً إلى إلغائها، قبل أن يتوصل إلى «اتفاق جديد عظيم» لا يعدو في الواقع كونه تحديثاً بسيطاً على مضمون اتفاقية «نافتا».
في «النووي» الإيراني، لا شيء يشير إلى أن ترمب لن يقدم على تكرار تجربة «نافتا»، وأن يصل إلى «اتفاق جديد عظيم» هو في الواقع نسخة منقحة بشكل طفيف من اتفاق أوباما، ما دام بوسعه الادعاء أنه أفضل من سلفه. إيران سترى في مثل هذا الاتفاق ثمناً زهيداً مقابل خروجها من أزمتها الاقتصادية.
بدأت ملامح التوتر من هذا الاحتمال تبدو على اللوبي الرئيسي المعادي لإيران في واشنطن، والذي تقوده اليوم «مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات». استباقاً لمثل هذه الخطوة، أصدرت المؤسسة توصية سياسية علنية موجهة للإدارة، تحضها على عدم التسرع بالتفاوض مع إيران، قبل أن تأخذ العقوبات مداها الحقيقي. كما حضت الإدارة على عدم الإقدام على اتفاق مع إيران، لا يعالج - إلى جانب النووي - البرنامج العسكري والصاروخي الإيراني، والسياسات التخريبية في المنطقة، وملف الإرهاب، وملف انتهاكات حقوق الإنسان.
إذا كانت «مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات» قلقة، فعلينا نحن أن نقلق أكثر من هوج ترمب، ومن انعدام العمق الاستراتيجي في سياساته. علينا أن نقلق وأن نتهيأ، ونطرح السؤال بإلحاح أكبر، فعلاً: ماذا لو غدر بنا ترمب؟