& عثمان ميرغني

&

أسوأ ما يمكن أن يحدث للسودان في المرحلة الانتقالية، أن تأتي الحكومة المدنية المنتظرة بأسلوب يتأثر بالمحاصصات والترضيات، بأي شكل من الأشكال. فالسودانيون الذين انتظروا وتحملوا الفراغ الكبير في السلطة منذ نجاح ثورتهم في الإطاحة برأس النظام السابق عمر البشير، كانوا وما زالوا يتوقعون أن تكون الحكومة المقبلة حكومة كفاءات من المستقلين، بعيدة عن المحاصصات الحزبية أو الترضيات بين مكونات «قوى الحرية والتغيير» الكثيرة التي تشمل كيانات مهنية وحزبية ومن الحركات المسلحة والمستقلين.
مناسبة هذا الكلام هو الجدل الواسع خلال الأيام القليلة الماضية حول ما تسرب عن أن الحركات المسلحة في «الجبهة الثورية» والمنضوية تحت لواء حركة «نداء السودان» طالبت خلال محادثاتها مع «قوى الحرية والتغيير» بمنحها مقاعد في المجلس السيادي وحصة في الحكومة المدنية. الأدهى من ذلك أن المحادثات بين الطرفين المنعقدة في إطار الجهود لبحث ترتيبات السلام وتحقيقه في ربوع السودان في غضون الستة أشهر الأولى من الفترة الانتقالية، توصلت إلى اتفاق على 11 من 12 نقطة ثم اصطدمت بعقبة الاتفاق على هياكل السلطة في المرحلة الانتقالية ومطالبة الحركات المسلحة بتأجيل تشكيل الحكومة المدنية إلى حين معالجة ملف السلام خلال الستة أشهر الأولى من الفترة الانتقالية. فالحركات المسلحة أرادت تمثيلها بحصة في المجلس السيادي وفي الحكومة المدنية، وورد في تصريحات لبعض قيادييها أنهم يريدون مقعدين على الأقل في المجلس على أساس أنهم قاتلوا النظام السابق ويحق لهم المشاركة في الحكم. ما لم يتوقعه كثيرون هو ردة الفعل الواسعة والغاضبة التي أحدثها الأمر، والرفض القاطع الذي تردد صداه في مختلف منصات التواصل الاجتماعي بين السودانيين، لأسلوب المحاصصات والترضيات على أساس أن ذلك ينسف مبدأ أساسيا من مبادئ إعلان «الحرية والتغيير»، وهو مبدأ الحكومة المدنية المكونة من كفاءات من المستقلين.

أضف إلى ذلك أن تحقيق السلام لن يتحقق بالمحاصصات، مثلما أن حل مشاكل التنمية، والتهميش، وتوزيع الثروات والخدمات بشكل متوازن بين الأقاليم المختلفة، لا يتم بتوزيع بضعة مناصب وزارية على الحركات المسلحة. فالمطلوب أكبر من ذلك بكثير، ويتطلب إعادة صياغة العقل السياسي في السودان ومنظوراً شاملاً لعملية السلام لا يقوم على فهم توزيع بضعة مناصب، وإنما على العمل لتحقيق التنمية المتوازنة، وإزالة مشاعر الغبن التي ترسبت في عدد من الأقاليم على مدى عقود نتيجة الإحساس بالتهميش. وربما كان من محاسن الثورة الراهنة أنها استشعرت هموم الأقاليم وهتفت لكل مدن وأقاليم السودان، وردت على المعاناة الناجمة عن الحرب في دارفور التي أججها نظام البشير، إذ تبنى شباب الثورة هتاف «يا عنصري ومغرور... كل البلد دارفور».
إزاء الردود الشعبية الغاضبة على موضوع المحاصصات، خرج قياديون مشاركون في المحادثات الجارية في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا بتصريحات وبيانات يؤكدون فيها أن هدف محادثاتهم هو بحث السلام لا المحاصصات وتقاسم السلطة. وأعلن تجمع المهنيين، الذي برز نجمه في قيادة الحراك الشعبي نحو الثورة التي انطلقت في 19 ديسمبر (كانون الأول) الماضي وبهرت العالم بنهجها السلمي، رفضه القاطع لأسلوب المحاصصات. كما صرح الدكتور محمد ناجي الأصم القيادي البارز في تجمع المهنيين بأنه لا مجال لأسلوب المحاصصات «لأنه يناقض التزامنا أمام الشعب السوداني، ولأننا أصلاً لا نملك السلطة حتى نوزعها... السلطة للشعب، والشعب يريد كفاءات تنفذ إعلان (الحرية والتغيير) فقط».
ولكي تطمئن الناس أكثر، قررت «قوى الحرية والتغيير» كذلك أن تتضمن شعارات المواكب الشعبية التي دعت لتسييرها اليوم رفض المحاصصات الحزبية في السلطة الانتقالية والالتزام بإعلان «الحرية والتغيير» الموقع في يناير (كانون الثاني) الماضي. وللتذكير فإن إعلان «قوى الحرية» ينص في بنده الثاني على «تشكيل حكومة انتقالية قومية من كفاءات وطنية بتوافق جميع أطياف الشعب السوداني»، وهو الأمر الذي تم التأكيد عليه في مناسبات عدة.

كل هذه التصريحات والبيانات الصادرة ربما ساعدت في تهدئة الضجة الواسعة التي أثارها الكلام عن محاصصات في اجتماع أديس أبابا، لكنها لم ترد على أسئلة عالقة لن تتضح الصورة بشأنها إلا بعد صدور تفاصيل الاتفاق بين «قوى الحرية والتغيير» و«الجبهة الثورية». من بين هذه الأسئلة ما يتعلق بملابسات تنازل تجمع المهنيين لـ«الجبهة الثورية» عن حصته في المجلس السيادي وهوية مرشحي الجبهة. فقد قيل إنه لتفادي المزيد من الجدل تقرر أن يكون التمثيل في المجلس السيادي لشخصيات من الأقاليم وليس على أساس الكتل المشاركة في «قوى الحرية والتغيير».
هذا الكلام من حيث المبدأ لا اعتراض عليه من غالبية السودانيين، لكن الأمور قد تتعقد إذا أصرت كل كتلة على مرشحيها، لأن حصة المدنيين في المجلس السيادي هي ستة مقاعد، ما يعني أن هناك حاجة إلى تنازلات بين مكونات «قوى الحرية والتغيير» لتحقيق التوافق على مرشحين يمثلون مختلف أقاليم السودان الكبرى، يكونون من الكفاءات «المستقلة» وليسوا ممثلين لأحزاب أو حركات مسلحة حتى لا يصبح الأمر محاصصات بين الكتل أو المكونات الأخرى لـ«قوى الحرية». الأمر ذاته ينطبق على مجلس الوزراء الذي اتفق على أن يتضمن تمثيلاً للأقاليم المختلفة.
لكن مع الحل المفترض لهذه المشكلة برزت قضية أخرى وهي ما تسرب عن أن الحركات المسلحة تريد استثناء لمنسوبيها الذين يشاركون في المناصب خلال الفترة الانتقالية كممثلين للأقاليم من شرط عدم الترشح في الانتخابات الديمقراطية التي ستجري بنهاية الفترة الانتقالية، وهو الشرط الذي ورد في الاتفاق السياسي الموقع مؤخراً بين «قوى الحرية والتغيير» والمجلس العسكري. تقديري أنه حتى لو كانت هذه التسريبات صحيحة فإن الحركات المسلحة ستضطر للتنازل عنها لسببين؛ الأول أنه يصعب تعديل الاتفاق السياسي الذي تم التوقيع عليه بعد مفاوضات طويلة مضنية، والثاني أن هذا البند ضروري لضمان أن تكون الحكومة الانتقالية بعيدة عن الحسابات الحزبية والعمل لصالح أي جهة ضد جهة أخرى، وأن يكون كل جهدها منصباً على معالجة الملفات الكثيرة العاجلة بدلاً من الانشغال بصراعات سياسية أو حزبية، وأن تعمل بحيادية واستقلالية للإعداد للانتخابات الديمقراطية المقررة بعد ثلاث سنوات.

كما أن تعديل البند سيعني أيضاً فتح الباب أمام أعضاء المجلس العسكري الذين سيشاركون في المجلس السيادي أو في مجلس الوزراء، لكي يشاركوا في الحكم بعد الفترة الانتقالية.
الجدل الذي حدث إبان اجتماعات أديس أبابا كان فرصة لكي تصل رسالة مهمة إلى «قوى الحرية والتغيير» بكل مكوناتها، مفادها أن غالبية الشعب السوداني وقوى الثورة ترفض تماماً فكرة المحاصصات والترضيات في تشكيل هياكل سلطات المرحلة الانتقالية، وتتمسك بحكومة كفاءات من المستقلين. فالمطلوب من قيادات «قوى الحرية والتغيير»، وبوجه خاص من رموز تجمع المهنيين، ومن الحادبين على الثورة أن ينأوا بأنفسهم عن المشاركة في السلطة الانتقالية، لكي يتفرغوا للعمل الأهم في المرحلة الانتقالية، وهو حماية هذه الثورة ومكتسباتها، والعمل على تحقيق أهدافها، ومنع أي محاولات لوأدها قبل بلوغ هدفها في العبور بالسودان إلى مرحلة الانتخابات الديمقراطية... فإذا بلغنا ذلك الموعد فسيكون الباب مشرعاً أمام الجميع لكي يخوضوا التنافس الحر عبر صناديق الانتخابات.