&علي بن محمد الرباعي

سألني سائلٌ عن دور الروافد المعرفية للثقافة الدينية في التخفيف من حِدّة التعصب؟ قال «ألا تشعر أن من أسباب التعصب رفض فكرة التعددية، والاستسلام التام للموروث الفقهي بخلله وعلله».؟

التعصب ليس مرضاً نداويه، بل مشكلة وراثية يستحيل اجتثاثها، كونها تسكن جيناتنا فنحن أبناء وأحفاد أسلاف اعتنوا بربط الفروع بالأصول، وتأصيل التشابه والتناغم، وإرساء دعائم السكون والرتابة، وتكريس التقليد. وتاريخنا الثقافي (فقهي) بامتياز صنعه تقليديون لم يتحاشوا التشوّه ولا التباين بين وحي السماء وبين فهمهم له.

يبدو أن أحد أسباب التعصب الجوهرية إهمال الجانب الروحاني للدِّين، فالروحانية لُبُّه، وتشعرك بأن الوحي نور لا يصل لقلبك إلا إذا كان خالياً من كل ما يغضب الله، وشيوع الطائفية والمذهبية والحزبية ليست أسباب تعصب بل نتائج.

الرُقي الروحي والسمو الأخلاقي لا يمكن كسبهما من الفقه؛ لأنه قوانين وأنظمة صارمة وجامدة، والخوف من الإسلام والمسلمين والتوجس والرعب منهم ظواهر موضوعية ناجمة عن إعلاء شأن الفقهاء، وإهمال الجانب الروحي متمثلاً في الطرح الصوفي الذي عدّه الحزبيون دروشة لأنه يصادم فكرتهم عن تسييس الإسلام.

الزهد ونهج السلف الصالح في العناية بالذات وتقليص المرجعيات، والذهاب إلى استفتاء القلب بعد رحلة التخلّي والتحلّي، تحرر الفقه الإسلامي من مأزق وثوقية الفقهاء، وتفكك العصمة الوهمية المتوارثة، منذ غلق باب الاجتهاد بأمر حاكم تقليدي.

لم يكن تشدد الفقه وتعصبه بمعزل عن احتقان علماء العقيدة الذين أسرفوا على أنفسهم بذم الجانب الروحاني التطهري في الإسلام واعتباره من أسباب تخلف المسلمين، ومن يقرأ التاريخ الطويل للمسلمين سيخرج بعلامة تعجب بسبب إقصاء التصوف، وشدة العداء لرموزه برغم أنه نبع غذاء وجداني يعلّق العبد كليا بالله، ويحميه من الوثوق بالذات أو تزكيتها.

سأضرب مثلاً حيوياً عاصرته وعاصره غيري من أبناء القرى والهجر قبل خمسة عقود، وأستعيد إقامة القرويين لصلاة الاستسقاء وانهمار المطر بغزارة وهم لا يزالون في مصلاهم. لا شك أنهم أكثر ثقةً في الله وأقوى إدانة لأنفسهم خلافاً لما نحن عليه اليوم من موثوقية بالقدرات وبالعبادات مع تزكية الذات.

الفقه يجنح بك نحو الآخرين، تتتبع عباداتهم، ومعاملاتهم، وسلوكياتهم، بينما التصوف البعيد عن الخزعبلات أو الشعوذة يفتح بصيرتك على مكامن خلل نفسك (عليكم أنفسكم).